سماها العرب القدماء “البطائح” وأعتقد مفسروا التوراة أنها “جنة عدن” وكانت قبلة لأكثر من مستشرق أوربي على مدى سنوات القرن العشرين. في 17 تموز / يوليو من عام 2016 ضمتها اليونسكو إلى لائحة التراث العالمي كمحمية طبيعية دولية بالإضافة إلى المدن الأثرية القديمة الموجودة بالقرب منها مثل أور واريدو والوركاء. إنها الأهوار العراقية التي تقع ضمن محافظات ميسان وذي قار والبصرة وهي المسطحات المائية ذات مساحة تصل إلى 35-40 ألف كيلو متر مربع في المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات وتعتبر نقطة استراحة وتوقف لآلاف من الطيور المهاجرة من شمال العالم إلى جنوبه وبالعكس.
ورد ذكرها في ملحمة كلكامش، أول ملحمة في التاريخ البشري، حين بدأ كلكامش، ملك الوركاء، رحلته في البحث عن إكسير الخلود على مشارف أربعة ممالك على حافة الأهوار هي أور وسومر وإريدو والوركاء أول السلالات السومرية التي شغلت الحقبة الأطول في تاريخ أرض ما بين النهرين، ميزوبوتومبيا. ورد ذكرها أيضا في المدونات وكتب الرحالة الذين زاروا العراق عن المسطحات المائية بين النهرين مثل اليوناني بوليبيوس واليوناني فلافيوس اريانوس في كتابه الشهير (حملات الاسكندر الكبير) والجغرافي الروماني استرابون الذي ذكرها في كتابه المهم: جغرافيا بلاد ميزوبوتومبيا.
ورد ذكر البطائح وسكانها في كتاب العين للفراهيدي وورد ذكرها في جمهرة اللغة لأبي عبيدة كما وصفها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان: الهور بحيرة يفيض فيها ماء غياض وأجام تتسع ويكثر ماؤها وهو موضع بالبطيحة بين البصرة وواسط، صعب المسلك وإليه ينسب الهور المتقى سلوكه لعظم الخطر فيه إن هبت أدنى ريح. وعند وصوله إلى العراق، كتب ابن بطوطة عن البطائح التي هي ” غابة قصب وسط الماء ويسكنها أعراب يعرفون بالمعادي.” أما الكتب التي أرخت لثورة الزنج وثورة القرامطة في الفترة المتأخرة من الدولة العباسية فلم تتأخر في وصف البطائح وسكانها لمشاركتهم الفاعلة في الثورتين وصولا إلى مدونات الإمبراطورية العثمانية التي تناولت هذه المسطحات المائية وسكانها أيضا.
طبيعة الأهوار الجميلة سحرت الرحالة والمستشرقين وجذبتهم إليها في أوقات مختلفة القرن العشرين مثل رسائل المس بيل في عشرينات القرن الماضي وبحث مهم كتبته الليدي دواروا عن طائفة الصابئة في جنوب العراق وأماكن سكنهم على أطراف الأهوار. أما ولفريد تيسجر الذي سكن في المنطقة لسبعة أعوام وألف كتبا باسم “رحلة إلى عرب أهوار العراق” فقد قدم وصفا استثنائيا للمنطقة ولسكانها وعاداتهم وتقاليدهم وطرق حياتهم والتي اعتبرها المؤلف امتدادا لحياة السومريين في بداية التاريخ البشري. كما زارها المستشرق كالفن ماكسويل الذي ألف كتابا شهيرا باسم “مملكة القصب.” إضافة إلى هذين الكتابين، يعد كتاب “العودة إلى الأهوار” للصحفي وكاتب الرحلات البريطاني كيفن يونغ من أجمل الكتب التي وصفت بدقة حياة سكان الأهوار وعلاقتهم بالطبيعة والمياه وطقوسهم في الفرح والحزن وتنقلاتهم من مكان لآخر والأساليب البدائية في صراعهم مع الأمراض وغيرها من التفاصيل التي وظفها الكثير من علماء الأنثروبولوجيا لاحقا في دراستهم عن المنطقة وسكانها. أما ” بيئات الأهوار العراقية” للمؤلف د. نجاح عبود حسين فيعتبر الكتاب الأحدث والذي يغطي جوانب مهمة من بيئة الأهوار ويشمل المناخ والجغرافية وأنواع الترب ومكوناتها ونوعية المياه وأساليب الزراعة والرعي وأنواع النباتات المائية وغيرها
سكان الأهوار يعتمدون على المشحوف في تنقلاتهم ويستخدمون القصب الذي ينبت في مناطقهم لبناء بيوتهم التي يمكن أن يتركوها عند انتقالهم إلى مناطق أخرى من الأهوار حسب مستوى الماء المرتبط بفصول الفيضان في دجلة والفرات. ورغم حالة عدم الاستقرار التي يعيشونها، نجحت وزارة التربية ووزارة الصحة في ستينات القرن الماضي في ارسال المعلمين والأطباء إلى التجمعات السكانية هناك بهدف مكافحة الأمية والأمراض على حد سواء. خلال الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988) أضطر الكثير من السكان إلى مغادرة بيوت القصب والعيش في مدن وقرى بعيدة عن سوح المعارك ومرمى المدفعية.
بعد عام 2003، بدأت جهود محلية (أكاديمية وحكومية) في التعاون مع مؤسسات وجمعيات دولية من أجل إعادة تأهيل أهوار العراق والتخلص من عقود طويلة من الإهمال والتخريب الذي حل بها ووضع الخطوات العملية لإعادة المهاجرين إلى مناطقهم الأصلية. وزارة الموارد المائية العراقية بدأت خططها المتعلقة بإعادة الحياة إلى هذه البقعة المهمة من بيئة العراق وفتحت الباب لكل الجهات المتخصصة من خارج البلد وداخله للمساهمة في إعادة الحياة إلى هذه المسطحات المائية.
شكلت طبيعة الأهوار وبيوتها القصب إلهاما كبيرا لفناني العراق في مراحل عديدة من القرن العشرين وحتى يومنا هذا ابتداءً من عبد القادر الرسام المولود في ميسان ومرورا بجواد سليم وفائق حسن الذي كان يأتي إلى أهوار الجنوب بصحبة طلاب كلية الفنون الجميلة ليرسموا المكان وطبيعته الخلابة وانتهاءً بفناني الوقت الحالي. إنه أمر يدعو للتفاؤل أن نلاحظ عودة الحياة إلى أهوار العراق وأن نلاحظ الطيور المهاجرة من شمال العالم (أو العكس) تتوقف في هذه المسطحات المائية كمحطة استراحة لها كما كانت تفعل منذ أيام السومريين.
ما هو رأيك في هذا الموضوع ؟ أنه مهم بالنسبة لنا. اترك تعليقًا أدناه