أعمال فنية تحاول إدراك المشاعر الخفية التي يبوح بها الوجه البشري.
يبحث الفنان اللبناني سركيس سيسيليان في وجوه الناس من حوله علّه يجد فيها آخر شبيها له، فيلمح في وجهه بعضا من المشاعر والأحاسيس التي يخفيها البشر، فيخلّدها في الذاكرة الجماعية ويستفز المتلقي للتفكر في خبايا تلك الشخوص.
لم يكن الوجه البشري يوما ما خارج تخيلات وتأملات الإنسان ومحاولات تشكيله على أي سطح قادر على الاحتفاظ به، حتى لو لبضع دقائق قبل أن يغوص في الغياب بهبوب ريح أو تدافع أمواج أو انزلاق حمم بركانية على صخور حفر فيها، أي الوجه البشري، ببدائية لافتة ومؤثرة.
ولم يخرج الفنان التشكيلي اللبناني-الأرمني سركيس سيسيليان في معرضه البيروتيّ عن هذا السعي المستميت لحفر الوجوه في الذاكرة، أي ذاكرته وذاكرة الآخرين، بغية فهمها بشكل أوضح وإدراك ما تخفيه من مشاعر.
قدم مؤخرا “غاليري آرنيلي”، بالتعاون مع “زيكو هاوس”، المكان الرحب الذي طالما قدم أعمالا فنية متنوعة لفنانين موهوبين ومبتدئين، معرضاً للفنان اللبناني-الأرمني، بعنوان “ترناس موتايشن”.
سركيس سيسيليان يعبّر عن مشاعر وأفكار تتعلق بالإنسان المعاصر الذي وضع وجها لوجه مع وحدته ومخاوفه الوجودية
ضم المعرض عدة أعمال فنية مشغولة بوسائط فنية مختلفة تشكلت فيها العجينة اللونية بزخم لافت لتشير إلى غنى المشاعر التي يعيشها الوجه ليس كجزء من الجسد الإنساني، بل ككيان مكتمل بحد ذاته ينطق بالحركة والسكون والإقدام والتقوقع دون حاجة إلى اكتماله بباقي الجسد وأطرافه. حتى عيون بعض الشخوص في اللوحات بدت مفرغة إلا من هيكلها. مقعرة بعمق شديد، ولكن تملك نظرات ثاقبة تحدق في وجه المُشاهد لتنطق بعدة تعابير ستختل حتما كلما أعاد المُشاهد النظر إليها من جديد. لذلك يمكن اعتبار نص الفنان التشكيلي، نصا يملك ملامح سينمائية يلعب فيها الزمن ومروره دورا وأثرا مفصليا.
أعمال الفنان ليست بحثا عن الذات بقدر ما هي بحث عن الآخر الشبيه في الذات. ويجمع في العديد من لوحاته أكثر من وجه ضمن مساحة واحدة لينقل المُشاهد عبر ذلك إلى التفكّر في الظروف المحيطة بتلك الشخوص. وما المحيط بتلك الشخوص أو الوجوه إلا الآخر الذي تدور أفكاره ومشاعره في كوكبه الخاص فتنشأ بفضل ذلك شبكة من العلاقات هي تيارات متمثلة بخطوط ملونة تشف وتتكثف، تحتد ألوانها وتبهت وتدور كلها وتتشابك وتتلامس لتعبر عن وهن الصلات وشدة اتصالاها ببعضها البعض على السواء.
وفي المعرض أيضا أعمال يمكن اعتبارها نحتية إذ يمكن لزائر المعرض أن يدور من حولها ليراها في جوانبها “النفسية” المختلفة.
يجب الذكر أننا احترنا كيف نترجم العنوان إلى العربية. فبعد مشاهدة العديد من الأعمال المعروضة يمكن أن نقول إن العنوان هو إما “تحولات” أو” تحول”. ولكنه، في الحقيقة، ليس لا هذا ولا ذاك. هو الإثنان معا. وهذا المزيج الناشئ أخذنا إلى عنوان قد يكون الأنسب وهو “تدافع”. إنه تدافع الوجوه في قلب وجه واحد لا يهدأ على تعبير واحد. أما دور الزمن وعبوره السريع جدا في ملامح الوجوه إلى حد يصعب وصفه بالكلمات يتجلى بصريا بشكل نافذ وشديد التعبير. ولعل هذا أقوى ما في وجوه الفنان.
ومما ذكر البيان الصحافي عن المعرض “لا تعود الشخصية الممثَلة مجرّد انعكاس لقسمات صاحبها، ومميّزات وجهه البيولوجية، إذ يقتضي النهج الفني للصورة أن ننسى المؤلف الذي صنعها ونموذجه. تمثل الشخصية حياتها الخاصة، أو حياة سواها، في مساحة صغيرة وغير متحركة من لوحة قماشية، أو صورة فوتوغرافية أو كتاب، ومع ذلك تبدو هذه الحياة غالبًا أكثر واقعية بالنسبة إلينا، وأكثف من الحياة الواقعية نفسها”.
ويطرح البيان الصحافي سؤالين أساسيين وهما “أليست الصورة المرسومة، هنا، موضوعًا متناقضًا؟ حين تعبّر عن ارتفاع الغرور والكبرياء أو العودة إلى البساطة الثانوية. إنه حقًا الغرور عندما يُطلب من اللوحة فقط من أجل التباهي والوصول إلى الخلود المخادع لصورة مجمّدة عن النفس. كم عدد القلاع والمتاحف وقاعات المدن التي تعرض صورًا احتفالية ومحكمة تنضح بالحزن والاكتفاء والملل؟”.
وبهذا التقديم وضع عمل الفنان في حيّز أوسع من مجرد تعبير عن مشاعر وأفكار خاصة بالفنان وحده، بل تتعلق بالإنسان المعاصر الذي وضع وجها لوجه مع وحدته ومخاوفه الوجودية وكيف لا والفنان قد ذكّر في أكثر من مناسبة حول المنطق المؤسس لعمله بأن الحجر الصحي الذي عاشه في فترة انتشار وباء كوفيد-19 ساهم في تشكيل معرضه، ولكن الأمر لم يتوقف هنا.
وذكر الفنان: “الوجوه التي رسمتها هي وجوه لناس لا أعرفم وهي ليست مرتبطة بي، لكني قمت بتخزينها من خلال تجاربي اليومية بسبب عملي في المقهى.. أنا انطوائي بطبيعتي، وأشاهد أكثر مما أتحدث، وهناك الكثير من الأشياء التي تدور في رأسي حيث أصل إلى نقطة العنف الفكري. أحيانًا تكون اللوحة ممزقة بهذه المشاعر التي تغمرني، وأتركها كما هي لأنها حقيقية”.
ويضيف قائلا: “كل ما أردت قوله من خلال هذه اللوحات هو أننا يجب أن ننتمي إلى عالم واضح وصادق، وألاّ نلجأ إلى الأقنعة لإظهار عكس ما نحن عليه. من الواضح أننا حزينون ومكتئبون في حياتنا، فلماذا نقنع أنفسنا بخلاف ذلك؟”.
قد يجد المستمع إلى كلماته نوعا من اليأس من الحياة المعاصرة بكل ما تلقيه من مصاعب على كاهل البشر غير أن هذا ليس جلّ ما قام به أو عبّر عنه الفنان فهو يقول بطريقة أو بأخرى في أعماله أن الأحرى بنا أن نواجه هذا “التدافع” الهائل من المشاعر والأفكار التي تقلقنا والأهم، تغيرنا باستمرار، وأننا في خضم الزمن المتسارع علينا أن نخترع صيغة ما تجعلنا لا نشعر بالدوار حتى الإعياء أو نكران ما نواجهه على أرض الواقع، أنه واقع فعلا وينبغي التعاطي معه بشجاعة.
يُذكر أن الفنان سركيس سيسيليان تخرّج من الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة “ألبا”، وهو حائز على شهادة الماجستير في الفنون البصريّة.