• السبت. سبتمبر 7th, 2024

المجهولة التي تفوقت ريشتُها على المعلومين (2 من 3)

يوليو 17, 2024 #الفنُّ
1
2

في الجزء الأَول من هذه الثلاثية، سردتُ السيرة الشخصية لتلك الرسامة التي اقتحمَت تقاليد عصرها بريشتها المبدعة، ما جعل أَبناء جيلها يُشيحون عنها، وفناني عصرها يَسِمُونها بــ”التقليدية الباهتة”، مع أَن الجميع أَقرّوا ببراعة ريشتها في لوحاتها الواقعية النهج والفكرة والتعبير.

الفنُّ حبها الوحيد

لم تكن في لوحاتها لمساتُ حنان لدى رسمها حيوانات كأَنها ستفرُّ من القماشة البيضاء. وعن المؤَرخين أَنها كانت تزور بعض المسالخ كي تدرس التفاصيل في أَجسام الحيوانات، كما كانت للغاية ذاتها تزور حدائق الحيوانات كي تدرس تحركاتها عن قُرب. من هنا دقة لوحتها والتفاصيل فيها ما جعل فنَّها شعبيًّا في عصرها.  

في دفتر مذكراتها وُجدت عبارة: “فني هو حبي الوحيد. والفن طاغية، يتطلَّب الوقت والقلب والعقل والروح والجسد، وليس سواه من يأْخذ قلبي. أَنا تزوجتُ الفن. هو زوجي وعالَمي وحلم حياتي والهواء الذي أَتنفس. لا أَشعر بشيْءٍ سواه ولا بأَحد سواه ولا أعرف سواه ولا أُفكر بأَمرٍ سواه”.

كتابٌ مفصل عنها

هذه العبارة أَعلاه، تناولتها الناقدة ومؤرخة الفن الكاتبة الإنكليزية كاترين هِيْوِيْتْ وجعلتها عنوان السيرة التي وضعتها: “الفن طاغية – سيرة روزا بونور غير الاتِّباعية” (منشورات “آيْكُن” – لندن – 2020).

وبين ما أَكدت عليه أَيضًا هِيْوِيْتْ في سيرة روزا: “قرارُها انتعال أَحذية رجالية ضخمة سميكة، وارتداء ملابس ذُكُورية واعتبارها الملابس النسائية مزعجة”. تلك الظاهرة في حينها كانت علامة فارقة في بيئتها، وسلوكًا رائدًا سابقًا مجتمعَها، إِذ كانت المرأَة عصرئذٍ تحتاج إِذْنَ سماحٍ خاصًّا لارتداء أَزياء غير النسائية التقليدية. وأَكثر: كسرت روزا تقليد عدم التدخين لدى النساء، فكانت تلفُّ بـأَصابعها التبغ وتدخِّن في المحافل والاحتفالات والاجتماعات العامة. كما كانت تتعمَّد أَن تظهر دومًا بالشَعر القصير كشَعر الرجال. وفي أَحاديثها كانت تُبدي اعتزازها بشخصيتها وسلوكها وعملها، وتفرض أَن يُنظَر إِليها تمامًا كالنظرة إِلى الفنانين الرجال من دون أَيِّ تمييز جندريّ. وما إِلَّا سنواتٍ طويلةً بعدها حتى شهدنا هذه الظاهرة الثائرة المتمردة مع لعبة الرسامة المكسيكية فريدا كالو (1907-1954)، فروزا كانت تقتَني لعبةً من خزَف تشبهها، ذاتَ لباس ذكوري وشَعر قصير.

 ومن مظاهرها غير الاتباعية أَنها عاشت زمالة طويلة (نحو 40 سنة) مع رفيقة طفولتها الرسامة الفرنسية ناتالي ميكاس (1824-1889) حتى إِذا توفيَت ميكاس زاملت روزا الرسامةَ الأَميركية آنَّا كْلُوْمْكِه (1856-1942). وهذه الأَخيرة كتبت عنها سيرةً موسعة (“روزا بونور:حياتها وأَعمالها”-منشورات فلاماريون-باريس 1908) )، ولدى وفاة روزا (1899) أَنشأَت آنَّا لتخليد ذكراها “معهد روزا بونور للفنون” (1900).

وهنا لمحة عن أَبرز أعمالها:

“الأَرنبان” (1840)

هي أَول لوحة قدّمتْها روزا لـ”معرض باريس”، وكانت لا تزال في الثامنة عشرة، وقبلَت اللجنة تلك اللوحة لـــ”معرض باريس 1841″. ومنذئذٍ بدأَت شهرتها تتَّسع كـ”رسامة حيوانات” فريدة في عصرها.

 هذه اللوحة أَيضًا دخلَت “معرض باريس (1849)، ونالت المدالية الثالثة. وكانت شهرةُ لوحات روزا أَخذَت تتسع في فرنسا، لذا كانت الحكومة الفرنسية هي التي أَوصتها على تلك اللوحة التي هي حاليًّا في متحف اللوكسمبورغ. ثم تتالت لوحات شبيهة لها أَرادت منها روزا تبيان العلاقة بين الإِنسان والطبيعة.

“معرض الأَحصنة” (1855) 

بين أَشهر لوحاتها، ومنها الكبيرة الوسيعة: “معرض الأَحصنة” (250 سنتم علوًّا بـ500 سنتم=5 أَمتار عرضًا). وهي كانت تحب رسم الأَحصنة، ودرسَت تفاصيل أَجسامها لفترة طويلة. طلبها منها النائب الفرنسي الدوق شارل دو مورني (1811-1865) لكنه لم يُعجَب بها (لجهله الشؤُون الفنية)، فعرضتْها روزا في معرض باريس 1855. وعن مؤَرخي الفن أَن انتشار شهرة هذه اللوحة، بعد “معرض باريس”، جعلَت الدوق دو مورني يندم على سوء تقديره وعدم إِعجابه، وحين أَراد أَن يعوّض عن جهله بشراء اللوحة، كان الثري الأَميركي كورنيليوس فاندِربيلْتْ الثاني (1843-1899) اشترى اللوحة وأهداها سنة 1887 إِلى “متحف متروبوليتان للفنون” في نيويورك. وقبلذاك كانت تلك اللوحة أَذهلت تاجر اللوحات البلجيكي إرنسْت غامبارتْ (1814-1902) فاعتمد روزا بين فنانين يسوّق لوحاتهم. بعدها توسعت مساحة مَن راحوا يوصونه أَن يشتروا سلفًا لوحات روزا، ما جعل لها مدخولًا مريحًا رافقها طيلة حياتها التي صرفتْها في العمل.

“حصاد العشب اليابس في أُوفيرن” (1855)

تعويضًا عن غلطته في عدم اقتناء لوحة “معرض الأَحصنة” اتصل الدوق دو مروني بروزا وأوصاها على لوحة، فرسمت له لوحة “حصاد العشب اليابس في أُوفيرن”، ونالت هذه أَيضًا إِعجاب اللجنة التحكيمية في صالون باريس، فنالت عليها روزا المدالية الذهبية، وذهبَت اللوحة لاحقًا إِلى متحف اللوكسمبورغ. وكان ذلك أيضًا كسرًا تقاليدَ ذاك الزمان أَن تُقتَنى في متحفٍ لوحةٌ لفنان ما زال حيًّا، لتكون إِلى جانب لوحات الخالدين الراحلين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *