كمال العيادي الكينغ
حادثتان كنتُ شاهداً فيهما وعليهما، وبين الحادثة الأولى والثّانية مسافة تجاوزت حرث ثلث قرن من عمري، وكلاهما تتعلّق بكتاب ألف ليلة وليلة.
أمّا الحادثة الأولى، فقد عشتها بمدينة موسكو في أواخر الثمانينات، وكنتُ طالبا طموحا يتأبط حزمة من قشور النظريات ويجهر بصوته مطالبا بحّقه في تغيير المنظومة الإنسانية عبر إعادة توزيع ايصالات وكربونات الرّزق توزيعا عادلا ولائقا بين أيتام الله في أرضه الشمطاء. والحقيقة أنّ لجوئي الاختياري لصحارى الصقيع بروسيا، كان سببه أنّني ضُربتُ بشراسة في بلدي من قبل ضابط صفّ أعور وشرطيّ كهل بلبّادة وشريطين، فناشدت الحدود الكونيّة محتجّا وساخطا، ولم يكن الكون بالنسبة إلى طالب فقير ومُهان مثلي حينها، أكثر من بوّابة روسيا بالطبع.
المهمّ، أذكر الحادثة جيّدا وكأنها البارحة. دعوني إلى موسكو لإجراء الاختبار الشفوي الأخير، بعد فروض وامتحانات كتابية وتطبيقيّة شبه تعجيزيّة في مدينة مينسك، عاصمة روسيا البيضاء، حيث كنت أدرس اللغّة الروسيّة وأحاول فكّ شفرتها بانبهار ايروتيكي، وأستعدّ لمناظرات الدّخول إلى المعهد الدّولي للسينما (الفغيك -FGIK) قسم السيناريو والنقد السينمائي. وكانت الخطوة الأخيرة التي كنتُ أعتقد أيامها بأنّ حلمي سيتحقّق بعدها.
وصلتُ موسكو وبقيت لمدّة عشرة أيام، وهي فترة العطلة الموسمية قبل بداية اختبارات الدّخول للمعهد، بقيت منكبّا ليلا نهارا على مراجعة المواد التي يمكن أن أُسأل فيها. وما كان أكثر ما كنّا نتوقّع ونُخمّن.
حين سمعت اسمي يُنادَى وأنا في بهو الانتظار، دخلت القاعة الفسيحة، وكانت تشبه قاعة المحكمة. وعلى المنصّة تصدّر ستّة أساتذة، عرفت من بينهم البروفيسور والمخرج الشهير (ايفان ايفانوف فانو). وهو أحد الأساطير الحية للفن السينمائي أيامها، وقد نقش اسمه ورسمه في ذاكرتي ووجداني حتّى قبل أن أصل الاتحاد السوفياتي بأعوام.
كنت واثقاً من نفسي في ذلك الوقت إلى درجة الغرور، ولكنّني وبصراحة، أحسستُ بأنّ ركبي مائعة وقصبتي ساقي بالكاد تحملان جذعي حال دخولي واقترابي من طاولتي الحافية الصغيرة في مواجهة هؤلاء الغيلان.
ومن حسن حظّي أو من سوئه، أنّ البروفيسور العجوز المُحنّك (ايفان ايفانوف فانو) المشهور بأسئلته القاصفة التي يسميها الطلبة العرب، في ذلك الوقت بـ(استمارة طلب الرجوع للوطن وحفظ ماء الوجه)، بادرني بالسؤال عن موقفي من الدوافع والنزعة الاجرامية لقيام الشاب القاتل المتهوّر (رسكولينكوف) وقتله للمرابية العجوز وشقيقتها البلهاء في رواية الجريمة والعقاب لدستيوفسكي، وإذا ما كنتُ أشاطره الرأي في ذلك.
والحقيقة أنني كنت أحفظ الرواية تقريبا عن ظهر قلب كما يُقال، وكانت ملاذي منذ بداية اكتشافي للأدب الرّوسي في سنوات المعهد الثانوي بالقيروان، لذلك، انطلقت أتحدث كما السهم، لا أكاد أتوقّف. وانهيت محاضرتي الحماسيّة بالقول إنّ رسكولينكوف كان ينتمي لطبقة دنيا، مثله مثل نحلة أو نملة عاملة في خليّة، عليها أن تطيع وتسعى ولا تجادل كثيرا، وأن رسكولينوف حين قارن نفسه بنابليون وألكسندر الأكبر فقد حكم على نفسه بالشقاء الأبدي. لأنه لم يخلق ليقود بل ليُقاد، ولهذا لم ولن يرتقي لمرتبة القتلة الذين يبيحون لأنفسهم ويبيح لهم التاريخ عبور الرّواق والخلود والقتل ببرود وراحة ضمير وكأنهم يقشّرون سفرجلة.
لم يقاطعني البروفيسور العجوز ايفان ايفانوف فانو إطلاقا، وأكتفي بسؤالي حين سكتُّ، عن معنى (سفرجلة)، لأنني نطقتها بشكل غير صحيح. ويبدو أنّ ما قلتُ وافق مزاجيته الغريبة وحدّته فأراد بي خيرا ومرّرني لزميله.
سألني زميله، وهوّ عجوز طاعن في السنّ سؤالا لم أكن أتوقّعه على الإطلاق. بل لم أفهم إن كان سؤالا أم ملاحظة أم ماذا. لم أفهم ماذا كان يريد مني بالضبط يومها. فقد صوّب سهم نظراته نحوي وقال:
– لا بدّ وأنّك تدرك جيدا أنّنّا جميعا شرقا وغربا مدينون لكتاب ألف ليلة وليلة، وأنّنا مهما تجاوزنا حدودنا، فلن ننجح في التعدّيل في مقاساته وضوابطه وأنه يتوجّب علينا استيعابه واحترامه والتشبّع به لكي نقنع وبالتالي لكي نضيف دون أن نفسد ونحاور دون أن نتطاول برعونة؟!
قبل أن أجيب، وقد أفحمتُ وما كان في حلقي ولا على لساني والله كلمة واحدة، التفتَ صوب الباب صائحا بلهجة صارمة، دون أن يمرّرنى لزميله الثالث:
– الطالب الموالي!
سنوات طويلة وطويلة جدا مرّت، غيّرتُ فيها مسار حياتي من مشروع مخرج يحلم بتغيير الكون إلى مشروع كاتب يحلم بتغيير نفسه وتأثيثها بدأب ما استطاع.
وها هي ذي ثلاثون سنة وأكثر مرقت كما الشهاب، وما زلت كلّما مررت أمام الرفّ الذي يستريح فيه كتاب ألف ليلة وليلة الملوكي، أقف وأهرش رأسي بحيرة، وأنا أتساءل:
ماذا كان يقصد ذلك البروفيسور العجوز؟.. وكيف يسمح لنفسه أن يظنّ أنني قد أتطاول يوما على ما رسم لنا بصرامة من حدود في كتاب ألف ليلة وليلة؟
وهل يمكن أن أكون مبدعا ساردا أو مُخرجا دون نسيج الحكاية وفتنتها؟!
أمّا الحادثة الثانية، فقد وقعت معي بعد هذه الحادثة الأولى بربع قرن بالتمام والكمال.
كنت أحضر محاضرة للبروفيسور (زاموش) وهو أحد أساطين أساتذة الاقتصاد الدّولي ومن كبار الفلاسفة الألمان، وقد كان درسني في بداية التسعينات، ويُحبّ أسئلتي الطريفة والمشاكسة ويردّ عليها أحيانا بتخصيص وارتجال كامل بقيّة المحاضرة، وبقيت مواظبا على حضور كلّ ما أمكنني من محاضراته النادرة حتّى بعد تقاعده وتقدّمه في السنّ.
وذات مرّة، وكنتُ أجلس بين المئات في آخر الصفوف، سمعته يسأل:
– هل تتصورون أنّ الحضارة الإنسانية كان يمكن أن تكون على ما هيّ عليه اليوم لو لم تنجز مبكرا كتابا مثل كتاب ألف ليلة وليلة، وتتبناه وتعيد صياغته باستمرار والاستلهام منه حتّى يصلنا بهذا الشكل البديع؟
يومها وقفت وقد اعترتني نخوة وصحت بأعلى صوتي:
– ألف ليلة وليلة وكتاب القرآن بما فيه من أناجيل وكتب سماوية سابقة يا أستاذنا الجليل.
ونظر بروفيسور (زاموش) صوبي مبتسماً بحنوٍّ وأشار بيده إشارة معروفة وكأنها علامة يأس ولكن بشكل مرح وتقاسيم منفرجة، وقال:
– كيمال العيادي الذي هوّ من تونس القيروان. طبعاً.. مفهوم.. مفهوم!
أدرجت الحادثتين، لأنّهما دليلي وبرهاني وسندي في إيماني العميق بأهميّة وخطورة هذا الكتاب؛ الذي هوّ إرث إنسانيّ لم يعرف الكائن البشري له شبيها في قوّته وروعته وانفتاحه وديمومته وطراوة متنه ومتانة حاشيته. فهو الحكاية المفتوحة الملهمة على الدّوام وفي كلّ العهود والحقبِ، وهو قبس من جذوة الحلم البديع وصهريج الخرافات الأولى الملهمة ونداءات الطفولة وهو المساحة المتاحة بين الغامر والعامر من الذاكرة البشرية المُهانة بكثرة الندوب والحروب والانكسارات والمختنقة بالشرور والدّماء..
كتاب ألف ليلة، هديّة الإنسان لأخيه الإنسان، وما أندر هدايا الإنسان لأخيه الإنسان.