“ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعةُ نفرٍ لا يكون على بابي أعفُّ منهم..، هم أركان المُلك ولا يصلح المُلك إلا بهم..: أما أحدهم فقاضٍ (= وزير عدل) لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخَر صاحبُ شرطة (= وزير داخلية) ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحبُ خَرَاج (= وزير مالية) يستقصي ولا يظلم الرعية..، والرابع.. صاحبُ بريد (= مدير مخابرات) يكتب بخبر هؤلاء على الصحة”!!
هذا قول عزاه شيخ المؤرخين الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- إلى المؤسس الحقيقي للدولة العباسية الخليفة أبي جعفر المنصور (ت 158هـ/775م)، وهو يشير إلى أي مدًى وصل حجمُ التعقيد والتفصيل في الفكر المؤسسي داخل نظام الدولة الإسلامية، وخاصة في مربّعها الإستراتيجي الذي ندعوه اليوم “الوزارات السيادية”: العدالة والأمن والاقتصاد والمعلومات. وهو يكشف أيضا -عكس ما يظنه كثيرون- ما اتسمت به هذه الدولة من براعة في التقسيم الإداري الهيكلي، ودقة في توزيع الأدوار الوظيفية لدوائر الحكم.
والحق أن تأسيس جهاز لجمع المعلومات هو شيء منطقي في تاريخ الدولة الإسلامية التي كانت على خط النار طوال تاريخها، فلم تتوقف لحظةً التدافعاتُ البينية بينها وبين منافسيها العالَميِّين، ولم تفتر محاولات اختراقها من الداخل بالعملاء والجواسيس؛ وبالتالي كان من الضروري أن تخوض الدول الإسلامية دروب ممالك الظلمات الاستخبارية لما تمثله من “عقلية عميقة” في تدبير شؤون الحكم، لاسيما أن أنظمتها وصلت إلى أقصى ما يمكن رصده في فنون هذا اللون من العمل الخفي التخصصي، وبتتبع تاريخ جهاز الاستخبارات الاسلامية يجد الباحث أن ثمة تطورا متواصلا وتراثا نوعيا تراكميا في الخبرات والممارسات داخل هذا المجال الحيوي.
فقد كان “ديوان الخبر” (المديرية العامة للمخابرات) ذا أهمية عالية في الدولة الإسلامية لجسامة مهماته وحساسيتها، تماما كما هو شأن أجهزة المخابرات اليوم؛ ولذلك لُقّب بعض متولي هذا الجهاز بـ”خطير الدولة”، فان من مظاهر أهمية جهاز المخابرات عند السلاطين أنهم كانوا لا يولونه إلا أصحاب الثقافة والثقة، ولذا نجد من بين الذين تولوا هذه المؤسسة علماء وأدباء مشاهير، بل وأحيانًا كانوا يجعلونه وراثةً في عوائلهم طلبا لاستقرار تقاليد عمل هذا الجهاز الحساس لأمن الدولة والمجتمع.
وإذا حاولنا تحديد المهمات التي كان جهاز “ديوان الخبر” يؤديها طوال القرون؛ فسنجدها أساسا واقعةً في أربعة اتجاهات: الأول: متابعة الأخبار المهمّة والأحوال العامة لأقاليم الدولة؛ الثاني: مراقبة كبار الموظفين لضمان استقامتهم والتأكد من صحة ولائهم؛ الثالث: ملاحقة المعارضين والمنتقدين والمحتجين والثائرين المحتملين؛ الرابع: جمع الأخبار عن العدوّ الخارجيّ.
وتبعا لتلك الوظائف تعددت فروع الاستخبارات الإسلامية؛ فكان منها الفرع المدني المعروف بـ‘صاحب الخبر‘ عند الإطلاق، ومنها الفرع العسكري الذي كان يُدعى ‘صاحب خبر العسكر‘، وفي العهد الأيوبي والمملوكي أصبح يسمى ‘اليَزَك‘.
ولعل من الحقائق المهمة هنا القول إنه مهْما كان إحكام هذه الأجهزة وكفاءتها فإن دورها ظل يتركز أساسا على الحماية ومكافحة الخصوم المنافسين، ولم يكن -في معظم الأوقات- مسلطا على الجماهير بإحصاء الأنفاس وكتم الآراء والتدخل في التفاصيل الحياتية، على نحو ما هو معروف عندنا اليوم.
وهدف هذه المقالة هو إماطة اللثام عن نمط غير معروف كثيرا من الفكر المؤسسي التاريخي للدولة الإسلامية؛ عارضا باختصار نشأة جهاز مخابراتها، ومستعرضا بعض ما شهده من نموّ وتعقيد في الغايات والآليات، وما طبعه من طرافة وبراعة في الرسائل والوسائل، مما يجعله -في الوقت نفسه- نموذجا رائدا ورائعا في العمل الأمني والفكر الإداري والفقه المقاصدي.
بذور التأسيس
لم يعرف المسلمون في زمن النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وخلفائه الراشدين نوعًا منظّمًا من العمل الأمنيّ، غير أنّ ذلك العهد المبكر شهد جهودًا أمنيّةً عظيمة استخبارًا عن الأعداء ومكافحةً لأنشطتهم التجسيسة التي اشتدت جرّاءها معاناة المجتمع الإسلاميّ الأول.
ففي المرحلة المكية؛ نجد أن “الحكم بن أبي العاص كان يتجسس على النبي صلى الله عليه وسلم، وينقل أخباره إلى الكفار”؛ كما يروي سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في ‘مرآة الزمان‘. وحين هاجر المسلمون إلى المدينة تعاظم الاستهداف بانضمام يهودها إلى قريش وحلفائها في التخابر عليهم. ومن صور ذلك ما ذكره البُلاذري (ت 279هـ/892م) -في ‘أنساب الأشراف‘- أنّ “مالكًا بن أبي قَوْقَل كان متعوِّذًا (= متظاهرًا) بالإسلام، ينقل أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود”!
ومن جراء هذه الأنشطة التجسسية الخطيرة دفع المسلمون ثمنًا غاليًا للاختراق الأمنيّ؛ ومن وقائع ذلك ما رواه الإمام البيهقيّ (ت 458هـ/1066م) -في ‘دلائل النبوة‘- من أنه لما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من عمرة القضاء سنة 7هـ/629م بعث سرية إلى قبيلة بني سُليم قرب المدينة، “وكان عينُ (= جاسوس) بني سليم معهـ[ـا] فلما فصلـ[ـت السَّرِيةُ] من المدينة خرج العين إلى قومه فحذرهم، وأخبرهم فجمعوا جمعا كثيرا..، فلما رآهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأوا جمعهم دعوهم إلى الإسلام فرشقوهم بالنبل، ولم يسمعوا قولهم”.
كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- عيونه الذين يخترقون صفوف أعدائه فيأتونه بأخبارهم مفصّلة؛ ففي صحيح البخاريّ أنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم مرة لأداء عمرة “وبعث عينًا له من (قبيلة) خُزاعة” يتحسس له أخبار الطريق
وقد كان للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه قصصٌ كثيرة في مكافحة جواسيس أعدائهم، منها ما رواه البخاريّ (ت 256هـ/870م) -في صحيحه- أنه “جاء عينٌ من المشركين إلى رسول الله”، فلما خرج خفيةً قال صلى الله عليه وسلم: «عليَّ الرجلَ اقتلوه»! فتسابقوا إليه فقتله سلمة بن الأكوع (ت 74هـ/693م).
وفي المقابل؛ كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- عيونه الذين يخترقون صفوف أعدائه فيأتونه بأخبارهم مفصّلة؛ ففي صحيح البخاريّ أنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم مرة لأداء عمرة “وبعث عينًا له من [قبيلة] خُزاعة” يتحسس له أخبار الطريق، ومضى النبي في طريقه حتى جاءه “جاسوسه الخزاعي” -الذي قيل إنه كان مشركًا- بمعلومات يقينية عما تعتزمه قريش.
وقد قال هذا الجاسوس للنبي صلى الله عليه وسلم: “إن قريشا جمعوا لك جُموعا..، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت (= الكعبة)”! وجاء في كتاب ‘الاستيعاب‘ لابن عبد البر (ت 463هـ/1070م) أن العباس بن عبد المطلب (ت 32هـ/652م) كان “إسلامه قبل [غزوة] بدر، وكان.. يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم..، وكان يحب أن يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مقامك بمكة خير”.
وأما في عهد الخلفاء الراشدين؛ فقد أورد سبط ابن الجوزي -في ‘مرآة الزمان‘- ما يدل على اعتناء بالعمل الأمني لدى الخليفة أبي بكر الصديق (ت 13هـ/624م)؛ فجاء في وصيته لقائده العسكري يزيد بن أبي سفيان (ت 18هـ/629م): “وإذا قدم عليك رُسُل عدوّك فأحسن نُـزُلَهم فإنه أول خيرك إليهم، ولا تـُطِلْ مُقامَهم عندك لئلا يطلعوا على عورات المسلمين، واحفظ سرك لئلا يخرج أمرك..، واستر الأخبار في عسكرك، وأذْكِ (= نشِّط) العيون والحرس” في معسكرك.
وكذلك فعل عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) الذي أرسل إلى معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/680م) يأمره بالاهتمام بسواحل الشام و”إقامة الحرس على مناظرها واتخاذ المواقيد لها”؛ وفقا للبلاذري في ‘فتوح البلدان‘. واشتُهر عنه أنه كان يخرج بالليل “يحرس الناس”؛ كما ذكر ابن شبّة (ت 262هـ/876م) في ‘تاريخ المدينة‘.
ويحكي لنا الواقدي (ت 207هـ/822م) -في ‘فتوح الشام‘- العديد من المراوغات الجاسوسية بين المسلمين والروم؛ بيد أن “الأجهزة الأمنيّة” لم تُعرف بشكلها “المؤسسي” إلا في الدولة الأموية، قياسا على ما ذكره ابن حجر (ت 852هـ/1448م) عن نشأة جهاز الشطة، فقد قال -في ‘فتح الباري‘- إن “‘صاحب الشرطة‘ (= مدير الشرطة) لم يكن موجودا في العهد النبوي عند أحد من العمال، وإنما حدث في دولة بني أمية”.
ريادة أموية
ربما كان أخطر الأجهزة الأمنية التي اعتمدها الأمويون في دولتهم هو جهاز “البريد” الذي كان يديره “صاحبُ البريد” أو “صاحبُ الخبر” الذي يعادل في زماننا “مدير/رئيس المخابرات”. وهو ما يمكن عدّه النواة الأساسية لـ”جهاز المخابرات” في الحضارة العربية الإسلامية. وعن النشأة الأموية لجهاز البريد يقول العسكريّ (ت نحو 395هـ/1004م) -في ‘الأوائل‘- إن “أول من وضع البريد في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وأَحكَم أمرَه عبد الملك (بن مروان ت 86هـ/716م)”.
ثم أضاف العسكري أن عبد الملك عيّن كاتِبَه سالماً أبا الزُّعيزعة على وظيفة “صاحب البريد” في الدولة العربية الإسلامية، مؤكدا عليه أن “البريد متى جاء من ليل أو نهار فلا يُحجَب، وربما أفسد على القومِ تدبيرَ سَنَتِهم حبسُهم البريدَ ساعةً”! ويبدو أنه كانت لبعض خلفاء الأمويين “عيون” خاصة من ثقات الرجال؛ كما جاء عند ابن حجر -في ‘تهذيب التهذيب‘- أن العالم المحدِّث “خالد بن أبي الصلت.. كان عيناً لعمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) بواسط” التي كانت تقع جنوبي العراق.
ولم يكن البريد -كما هو اليوم- وسيلةَ مراسلةٍ تستخدمها الحكومات وعامة الناس، بل كان يؤدي حصرا المهمات الرسمية التي سنذكرها لجهاز المخابرات؛ فلا عجب أن نجد المسؤول عن البريد يُسّمى في القرون الإسلامية الأولى: “صاحب الخبر”، قال السبكي (ت 771هـ/1369م) في ‘طبقات الشافعية‘: “صَاحب الْخَبَر يعْنى أَنه يطالع الْأَمِير بأخبار الْمَدِينَة”. ولعلّ هذه التسمية هي مصدر التسمية الحديثة لأجهزة أمن المعلومات كما في لفظيْ: “المخابرات” و”الاستخبارات”.
ويبدو أن المسلمين أخذوا “البريد” بهذا المعنى عن الفُرس؛ فالمحدث ابن الأثير (ت 606هـ/1210م) يقول -في ‘النهاية‘- إن “البريد كلمة فارسية يراد بها في الأصل: البغل، وأصلها: ‘بريده دم‘، أي: محذوف (= مقطوع) الذَّنَب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، فأعربت (= عُرّبت)” اللفظة عند نقلها للعربية.
وكانوا يجعلون البريد محطاتٍ يُسمونها “سكك البريد”، وفيها يقول الخليل الفراهيدي (ت 170هـ/786م) في كتابه ‘العين‘: “سِكَكُ البَريد كلُّ سِكَّةٍ منها اثنا عشر ميلاً (= 22 كم)”. وفي كل سكّة كان حامل الخبر يبدّل دابّته أو يسلم “الخريطة” -وهي حقيبة تقارير الأخبار- إلى موظف بريد آخر؛ قال الفتّنيّ (ت 986هـ/1578م) في ‘مجمع بحار الأنوار‘: “وخيل البريد هي المرصَدة في الطريق لحمل الأخبار من البلاد، يكون منها في كل موضع شيء [معدٌّ] لذلك”.
وقد أورد المؤرخون المسلمون سبق الإمبراطورية الفارسية إلى استعمال البريد على النحو الذي جرى لاحقا في الدولة الإسلامية، وذكروا وجود “أصحاب الخبر” المُعيّنين بنواحي الدولة؛ ففي ‘المنتظم‘ لابن الجوزي أن كسرى أنوشروان (ت 579م) “رَفَعَ إليه ‘صاحبُ الخبر‘ بنياسبور أنه قد ظهر رجل لا يغادر صورتَه شيءٌ من صورة الملك، وأن اسمه أنوشروان”؛ فلعلّه خشي أن يكون في وجوده -مع عظم شبهه بالملك- خطرٌ أمنيّ على الحكم. ويبدو أن الروم ماثلوا الفرس في استخدام البريد أمنيا، كما يُستفاد من أشعار رواها الجاحظ (ت 255هـ/868م) في كتابه ‘البغال‘.
طفرة عباسية
وبعد فترة أطلقت فيها التسميتان معا على موظف واحد عُرف مركزه الإداري بـ”ديوان الخبر والبريد”، كما سماه ابن كثير (ت 774هـ/1372م) في ‘البداية والنهاية‘؛ يبدو أن تسمية “صاحب الخبر” انفصلت فنيا -منذ القرن الهجري الرابع تقريبا- عن وظيفة “صاحب البريد”، وإن ظل الأخير مسؤولا عن المساعدة في توصيل الأخبار بحكم امتلاكه وسائل النقل المعتمدة، لكن مسؤولية جمع الأخبار وإدارة عناصر الاستخبارات صارت اختصاصا لـ”صاحب الخبر” وحده.
على أننا نجد الفاطميين كانوا يسمون هذا الجهاز المعلوماتي “ديوان الترتيب”، والمشرف عليه “صاحب الترتيب”؛ فالمقريزي (ت 845هـ/1441م) يقول في ‘اتّعاظ الحُنفا‘: “وهذا الترتيب يقال له في غير هذه الدولة [الفاطمية] ‘صاحب البريد‘، فكان يكاتب متولي هذا الديوان بالأخبار بمطالعات تصل إليه مترجمةً (= مُعَنْوَنَة) بمقام الخليفة، فيعرضها من يده ويجاوب عنها بخطه”.
وكان لصاحب البريد مقرٌّ دائمٌ بمراكز المدن الرئيسية يُدار منه المخبرون وأنشطتهم التجسسية، وتودع فيه التقارير الأمنية حتى ترسل إلى “ديوان البريد والخبر” (المديرية العامة للمخابرات) بالعاصمة. وقد حُفظ لنا من مقراتها “دار صاحب البريد” بمكة التي حدد الفاكهيّ (ت 272هـ/885م) -في ‘أخبار مكة‘- موقعها بدقة، فذكر أن من “الدور التي تستقبل المسجد الحرام من جوانبه خارجا.. مما يلي الشام.. دار صاحب البريد التي يسكنها أصحاب البُرُد (= جمع بريد) بمكة”.
تعاظمت أهمية “ديوان الخبر” وترسخت تقاليد مؤسسته الاستخباراتية في أيام العباسيين الذين أطاحوا بالأمويين عبر ثورة مسلحة عاتية، كان العمل الأمني والمخابراتي أحد أسلحتها القاتلة، ولذلك اهتموا بهذه المؤسسة منذ البداية
تعاظمت أهمية “ديوان الخبر” وترسخت تقاليد مؤسسته الاستخباراتية في أيام العباسيين الذين أطاحوا بالأمويين عبر ثورة مسلحة عاتية، كان العمل الأمني والمخابراتي أحد أسلحتها القاتلة. ولذلك اهتموا بهذه المؤسسة منذ البداية؛ وقد سبق لنا إيراد المقولة التأسيسية لخليفتهم الثاني والمؤسس الحقيقي لدولتهم المنصور عن “أركان المُلك” الأربعة، والتي رواها الطبري.
وانطلاقا من ذلك؛ اعتنى العباسيون بتوفير الموارد الكفيلة بدعم مؤسسة الاستخبارات لتؤدي عملها على أكمل وجه في دولة مترامية تمتد من الصين إلى المغرب؛ فقد جاء في كتاب ‘مفيد العلوم ومبيد الهموم‘ المنسوب للخوارزمي (ت 383هـ/993م) أن “المأمون الخليفة (ت 218هـ/833م) رتّب لصاحب البريد أربعة آلاف جَمَلٍ -مع مؤنتها وآلاتها- يستخبرون عليها أمور المملكة، فكان يعرف أمور العالم في يوم واحد”!
ولا يستغرب ذلك فإن “حُصَفاء (= عقلاء) الملوك يُخرجون من خزائنهم الأموال العظيمة جدا إلى ‘أصحاب الأخبار‘، ولا يستكثرونها في جنب ما ينتفعون به من جهاتهم”؛ كما يقول أبو علي مِسْكَوَيْه الرازي (ت 421هـ/1030م) في ‘تجارب الأمم‘.
وقد تحدث الساسة والعلماء عن أهمية أجهزة المخابرات المنضبطة بالمصلحة العامة والصفات المطلوبة في عناصرها الأكفاء الأمناء، وهي صفات وشروط كثيرة أفرد لها القلقشندي (ت 821هـ/1418م) فصلا في كتابه ‘الأعشى‘.
ولعل أجمع النصوص في ذلك ما قاله الإمام الماوردي (ت 450هـ/1058م) في ‘تعجيل النظر‘: “إن المَلِك لَجديرٌ ألا يذهب عليه صغير ولا كبير من أخبار رعيته وأمور حاشيته، وسِيَر خلفائه والنائبين عنه في أعماله، بمداومة الاستخبار عنهم وبث ‘أصحاب الأخبار‘ فيهم سرا وجهرا. ويَندب (= يختار) لذلك أمينا ويُوثَق بخبره، وينصح الملك في مغيبه ومشهده، غير شرِهٍ فيرتشي، ولا ذي هوى فيروي أو يعتدي، لتكون النفس إلى خبره ساكنة، وإلى كشفه عن حقائق الأمور راكنة”.
مكانة سامية
كان “ديوان الخبر” (المديرية العامة للمخابرات) ذا أهمية عالية في الدولة الإسلامية لجسامة مهماته وحساسيتها، تماما كما هو شأن أجهزة المخابرات اليوم؛ ولذلك لُقّب بعض متولي هذا الجهاز بـ”خطير الدولة” كالحسين بن إبراهيم البغدادي (ت 552هـ/1158م)؛ طبقا للصفدي (ت 764هـ/1363م) في ‘الوافي بالوفيات‘، ومنبع خطورته هو أنه “خبير بكلّ ما يجب وعارف بما تقرّر”؛ حسب التعبير الجامع لابن الفُوَطي (ت 723هـ/1323م) في ‘مجمع الآداب‘.
وكان الحُكّام يختارون لوظيفة “صاحب الخبر” -وهو مدير المخابرات العامة أو إحدى محطاتها الفرعية بمدينة ما- رجالا من أهل الثقة والثقافة والنباهة نظرا لمكانتهم الرفيعة بدوائر صناعة القرار؛ ولذا قال الخوارزمي إن الطبقة الأولى من “خواصّ المَلِك” تتضمن “صاحب البريد لأنه بمنزلة سمع الملك.. [فـ]ـيطلعه على مصالح المملكة ومفاسدها”. ثم يضيف -مبينا حيوية هذه المؤسسة لاستقرار الدول- أن “من أدب الحرب تنفيذ (= إرسال) العيون والجواسيس وأصحاب الأخبار فإن لهم مكيدة عظيمة”.
ولذا نجد من بين الذين تولوا هذا المنصب علماء وأدباء مشاهير، بل وأحيانًا كانوا يجعلونه وراثةً في عوائلهم طلبا لاستقرار عمل هذا الجهاز الحساس لأمن الدولة والمجتمع. ومن هؤلاء المشاهير الأديب الحريري (ت 516هـ/1122م) صاحب ‘مقامات لحريري‘؛ فقد قال الأصبهاني (ت 597هـ/1200م) في ‘خريدة القصر‘: “ولم يزل الحريري صاحبَ الخبر بالبصرة في ديوان الخليفة، ووجدت هذا المنصب لأولاده إلى آخر العهد المُقْتفَوي”، أي عهد الخليفة المقتفي بالله (ت 566هـ/1171م).
من مظاهر أهمية جهاز المخابرات عند السلاطين أنهم كانوا لا يولونه إلا أصحاب الثقافة والثقة، ولذا نجد من بين الذين تولوا هذه المؤسسة علماء وأدباء مشاهير، بل وأحيانًا كانوا يجعلونه وراثةً في عوائلهم طلبا لاستقرار عمل هذا الجهاز الحساس لأمن الدولة والمجتمع
ومن دلائل أهميّة هذا المنصب ترقيةُ بعض مديريه إلى منصب رئاسة الوزارة؛ فقد ذكر الذهبيّ -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن أبا نصر الكُنْدَريّ (ت 456هـ/1064م) اتصل بالسلطان طغرل بك السلجوقي (ت 455هـ/1063م)، فجعله “صاحبَ خَبَرِه” أي مديرا لمخابراته، ثم “استوزره (= عيّنه وزيرا) وله إحدى وثلاثون سنة..، ولقّبه الخليفة [العباسي]: ‘سيد الوزراء‘”.
وكان يُنظر إلى هذا الديوان باعتباره ضرورة أمنيّة لا يصحُّ التفريط فيها -ما دام منضبطا بحدود صلاحياته الشرعية- مهما كان دافعُ التفريط نبيلًا، وربما اعتبروا إهماله سببا في انهيار الدول. فالأصبهاني يحكي -في ‘تاريخ دولة آل سلجوق‘- قصة اغتيال فرقة الحشاشين للوزير نِظَام الملك (ت 485هـ/1092م) الذي بدأ إثرَه اختلالُ الدولة السلجوقية بالتقاتل الداخلي بين أمراء الأسرة الحاكمة.
وقد ذَكَر أن ذلك الاغتيال لم يكن إلا “بسبب أنْ لم يكن للدولة ‘أصحاب أخبار‘، وكان الرسم في أيام الديلم (= البويهيون) -ومَن قَبلهم من الملوك- أنهم لم يُخْلوا جانبا من ‘صاحب خبر وبريد‘، فلم يَخْفَ عنهم أخبار الأداني والأقاصي وحال الطائع والعاصي”.
ثم يضيف أن سبب إهمال ذلك أن السلطان ألب أرسلان قال لنظام الملك: “لا حاجة بنا إلى صاحب خبر، فإن الدنيا لا تخلو كل بلد فيها من أصدقاء لنا وأعداء؛ فإذا نقل إلينا صاحب الخبر -وكان له غَرَضٌ (= مصلحة شخصية)- أخرج الصديقَ في صورة العدو، والعدوَّ في صورة الصديق. فأسقط السلطانُ هذا الرسم لأجل ما وقع له من الوهم، فلم يشعر إلا بظهور القوم (= الحشاشون) وقد استحكمت قواعدهم”. والغريب في الأمر أن نظام الملك هذا عقد فصلا لطيفا في كتابه ‘سياست نامه‘ عن أهمية جهاز الاستخبارات ودوره في استقرار الدول!!
وممن عُرفوا بإهمال الجهاز الاستخباريّ والتقليل من أهمية جهوده فعدّ مؤرخون ذلك من الأسباب البعيدة لإسقاط التتار الدولةَ العباسية سنة 656هـ/1258م؛ الخليفةُ الظاهر (ت 623هـ/1226م) الذي كان يرفض الاطلاع على التقارير الأمنية السرية التي تُرفع إليه، “فلما مات وجدوا.. في داره ألوف رقاع (= تقارير أمنية) كلها مختومة لم يفتحها، فقيل له أن يفتحها فقال: لا حاجة لنا فيها، كلها سعايات”! وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.
بين نهجين
وما فعله الظاهر هذا كان نقيضا لما عُرف به أبوه الخليفة الناصر (ت 622هـ/1225م) من عناية بالغة بجهاز الاستخبارات وقراءة تقاريره يوميا كما يفعله اليوم رؤساء الدول الجادّون؛ ففي عهده نجد “أن حُرّاس الدروب كانت ترفع إلى الخليفة -في صبيحة كل يوم- ما يكون عندهم من أحوال الناس الصالحة والطالحة؛ فأمر [ابنُه وخليفتُه] الظاهرُ بتبطيل ذلك، وقال: أي فائدة في كشف أحوال الناس؟ فقيل له: إن تركت ذلك تفسد الرعية! فقال: نحن ندعو لهم بالإصلاح”؛ حسب ابن تَغْرِي بَرْدِي (ت 874هـ/م1469م) في ‘النجوم الزاهرة‘.
إذا حاولنا تحديد المهمات التي كان جهاز “ديوان الخبر” يؤديها طوال القرون؛ فسنجدها أساسا واقعةً في أربعة اتجاهات: الأول: متابعة الأخبار المهمّة والأحوال العامة لأقاليم الدولة؛ الثاني: مراقبة كبار الموظفين لضمان استقامتهم والتأكد من صحة ولائهم؛ الثالث: ملاحقة المعارضين والمنتقدين والمحتجين والثائرين المحتملين؛ الرابع: جمع الأخبار عن العدوّ الخارجيّ.
أبدع المسلمون في تتبع أخبار الأعداء لضمان الاستعداد المُسبق لخططهم، وفق ما يزودهم به “أصحاب الأخبار” من الجواسيس المندسين في صفوف الأعداء بساحات المعارك، أو القاطنين معهم في بلدانهم متخفّين في هيئة تجار أو أصحاب حِرَف، وأحيانا يكون هؤلاء الجواسيس من الأعداء أنفسهم
كان “أصحاب الأخبار” يرصدون كافة الأحاديث والوقائع ثم يرسلونها إلى الجهة العليا المختصة، بغض النظر عن مدى أهميتها الأمنية أو العسكرية أو السياسية؛ حتى إن عَريب القرطبي (ت 369هـ/979م) ينقل لنا -في ‘صلة تاريخ الطبري‘- وثيقةً نادرةً لتقرير تامٍّ أرسله ‘صاحب خبر‘، ولا يحتوي معلومةً مهمّة بل قصّة غريبة عن بغلةٍ وَلدت مُهرةً!
قال عَريب القرطبي: “ورد كتاب ‘صاحب البريد‘ بالدِّينَوَر (= مدينة تقع غربي إيران) يذكر أن بغلة هناك وضعت فلْوةً، ونسخة كتابه:… إلخ”. ثم أورد نص التقرير متضمنا خبر البغلة بدقّة تامةّ، مع ذكر مصدره المباشر وتفاعلاته بين الناس؛ وهذا رغم طبيعة الخبر غير الحساسة، فكيف لو كان خبرًا له انعكاسات أمنية أو سياسية؟!
أبدع المسلمون في تتبع أخبار الأعداء لضمان الاستعداد المُسبق لخططهم، وفق ما يزودهم به “أصحاب الأخبار” من الجواسيس المندسين في صفوف الأعداء بساحات المعارك، أو القاطنين معهم في بلدانهم متخفِّين في هيئة تجار أو أصحاب حِرَف، وأحيانا يكون هؤلاء الجواسيس من الأعداء أنفسهم، فيحقق المسلمون بتجنيدهم اختراقا أمنيا للجبهة المعادية. ولعلّ من أروع أنشطة المسلمين التجسسية على الأعداء ما نقلته كتب التاريخ من قصص اختراقهم الأمني العميق والنوعي للممالك الصليبية على ساحل الشام.
فها هو المؤرخ أبو شامة المقدسي (ت 665هـ/1267م) يروي لنا قصة تجنيد مخابرات صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ /1193م) لامرأة صليبية مرموقة هي زوجة ملك أنطاكية الصليبي بوهيموند الثالث (ت 598هـ/1201م). ففي سبيل الحصول على معلومات خطيرة من مصدر صليبي رفيع المستوى؛ لم يتحرج هذا السلطان -المعروف بتدينه العميق- من تجنيد امرأة صليبية، بل نجده يبذل لها في سبيل ذلك الهدايا النفيسة، ويكرمها بإطلاق الأسرى من عائلتها طلبا لاستمرار مساعدتها الاستخباراتية لدولته.
يقول أبو شامة في ‘كتاب الروضتين‘: “وكانت امرأة ابرنس (= أمير) أنطاكية تُعرف بدام (= مدام) ‘سبيل‘ (Sibylla توفيت بعد 584هـ/1188م) في موالاة السلطان [صلاح الدين] عينًا له على العدو، تهاديه وتناصحه وتُطلعه على أسرارهم، والسلطان يُكرمها لذلك ويُهدي لها أنفس الهدايا، فلما فَـتح (في سنة 584هـ/1188م) حصن برزية [قرب أنطاكية] وحصل في أسره هذه الجماعة (= أخت سبيل وأقاربها) وافترقت بهم أيدي المسلمين، تتبعهم السلطان وخلّصهم من الأسر وأنعم عليهم، وجهّزهم وسيّرهم إلى أنطاكية لأجل امرأة الابرنس، فشكرتْه [سبيل] على ذلك ودامت مودتُها ونفعُها للمسلمين”!!
دفاع وتأصيل
وبعد ذلك بنصف قرن؛ نجد حفيده ملك دمشق المعظَّم عيسى الأيوبي (ت 624هـ/1227م) -وقد كان فقيها على المذهب الحنفي- يكرر الأسلوب ذاته في تجنيد النساء الصليبيات، وتتفق معهن مخابراته على “شِفْرات” أمنية لتبليغ أخبار تحركات الجيش الصليبي، بل وتستعمل مخابراته إحداهنّ في إسقاط مساعد كبير لقائد هذا الجيش، ثم يتم استخدمه هو الآخر في توجيه العدوّ الوجهة التي يريدها قادة المسلمين!
يقول سبط ابن الجوزي في ‘مرآة الزمان‘: “وكان [المعظَّم] في أيام الفَسْخ (= انتهاء الهدنة) مع الفرنج يرتِّب النِّيران على الجبال من باب نابُلُس إلى عكا، وعلى عكا جبلٌ قريب منها يقال له الكرمل، كان عليه المنوِّرون وبينهم وبين الجواسيس علاماتٌ، وكان له في عكا ‘أصحاب أخبار‘ وأكثرهم نساء الخيّالة [الفرنج]، وكانت طاقاتهن (= نوافذهن) في قبالة [جبل] الكرمل، فإذا عَزَمَ الفرنج على الغارة فتحت المرأة الطاقة، فإن كان يخرج مئة فارس أوْقَدَت المرأةُ شمعةً واحدةً، وإن كانوا مئتين [أوقدت] شمعتين، وإن كانوا يريدون قَصْدَ حوران وناحية دمشق أشارت إلى تلك النَّاحية، وكذا إلى نابُلُس؛ فكان [بذلك] قد ضيَّق على الفرنج الطرق إذا قصدوا جهة سَبَقَ إليها بعسكره، وكان يعطي النِّساء والجواسيس في كل فَسْخٍ جملةً كبيرة”.
ثم يورد سبط ابن الجوزي -وقد كان واعظا مشهورا- حوارا بينه وبين المعظَّم تكشف لنا تفاصيل هذا الاختراق المخابراتي وآلياته ومنافعه: “فقلتُ له في بعض الأيام: هذا إسرافٌ في بيوت الأموال! فقال: أنا أستفتيك، لمّا عَزَمَ الإنبرور (= الإمبراطور: ملك الألمان) على الخروج إلى الشَّام أراد أن ينزل عكا بغتةً ويسير إلى باب دمشق، فبعث فارسًا عظيمًا وقال له: أخفِ مجيئنا إلى البلاد لنغير بغتةً!
وكان بعكا امرأة مستحسَنة فكتبتْ إليَّ تخبرني [بالأمر]، فبعثتُ لها ثيابًا ملونة وعنبرا ومقانع حرير، فلبستها واجتمعتْ بالفارس، فدُهش وقال: من أين هذا؟ فقالت: من عند صديقٍ لنا من المُسْلمين! فقال: مَنْ هو؟ فقالت: الكُرَيْدِي (= المعظّم الكردي النَّسَب)، فصلَّب (= رسم الصليب) على وجهه وقام فخرج من عندها، فما زالت تلك المرأة تتلطَّف بالفارس وأهاديه حتَّى صارت كُتُب الإنبرور تجيء إليه مختومةً فيبعثها إليَّ، وأقول له يكتب ما أُريد، فلو لم أدارِ عن المسلمين جاء الإنبرور بغتةً، وساق من أهل الشَّام ومواشيهم وأموالهم ما لا يُعَدُّ ولا يحصى، فأنا أفدي المسلمين بالشيء اليسير”!!
وقصص استعمال النساء في المهام الاستخباريّة في التاريخ الإسلاميّ عديدة، سواء من قِبل المسلمين أو من عدوّهم. ولعلّ أقدمها قصة المرأة التي بعث معها الصحابيّ حاطب بن أبي بلتعة (ت 30هـ/652م) رسالة معلوماتية إلى قادة قريش.
فقد روى البخاريّ -في صحيحه- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اكتشف أمرها أرسل جماعة في أثرها بقيادة عليّ، فأدركوها وهددها علي -حين أنكرت الرسالة- قائلا: “لتُخْرِجِنَّ الكتابَ أو لنلقينَّ الثياب، فأخرجته من عِقاصها (= ضفائرها)، فأتينا به النبي فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي”. وفي هذا الحديث نرى عليًّا -على ورعه المعروف- لا تأخذه في تنفيذ مهمّته الأمنيّة لومة لائم!
مهمات متعددة
كان من أهمّ وظائف ‘صاحب الخبر‘ مراقبة كبار الموظفين من وزراء وولاة وقضاة وقادة عسكريين وأمنيين، بل وحتى من الجواسيس الآخرين أنفسهم كما كانت عادة والي العراق الأموي الحجّاج بن يوسف (ت 95هـ/715م)>
فقد ذكر القاضي الأديب أبو الفرَج المُعافَى بن زكريا الجَريري النَّهْرَواني (ت 390هـ/1001م) -في ‘الجليس الصالح الكافي‘- أن الحجّاج أرسل الخطيبَ المفوّهَ الغضبانَ بن القَبَعْثَرَى الشيباني (ت بعد 84هـ/704م) “ليأتيه بخبر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكِنْدي (الثائر على الأمويين المتوفى 85هـ/705م) وهو بكرمان (تقع اليوم وسط إيران)، وبعث عليه عَيْناً (= جاسوسا) -وكان كذلك يَفعلُ [مع رُسُله وجواسيسه]- فلما انتهى الغضبان إلى عبد الرحمن قال له: ما وراءك؟ قال: شَرٌّ! تغدَّ بالحجاج قبل أن يتعشَّى بك!….؛ فلما قدم الغضبان على الحجاج قال… له: أمَا إنك صاحب الكلمة التي بلغتني عنك حين قلت [لابن الأشعث]: تغدَّ بالحجاج قبل أن يتعشى بك؟ قال الغضبان: أما إنها -جعلني الله فداءك- لم تنفع مَنْ قِيلت له، ولا تضرُّ مَنْ قِيلت فيه، فأمر الحجاج به إلى السجن” فأودع فيه زمانا ثم أطلق سراحه!!
وأما تجسس السلطة على موظفيها؛ فيذكر المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1232م) -في ‘الكامل‘- من نماذجه أن ملك تونس تميم بن المعزّ الصنهاجيّ (ت 374هـ/984م) “كان له في البلاد ‘أصحاب أخبار، يُجري عليهم أرزاقًا سنيّة، ليطالعوه بأحوال أصحابه لئلّا يظلموا الناس”.
ولذلك نجدُ ذوي الخبرة السياسية والأمنية ينصحون الأمراء بمراقبة كبار موظفيهم؛ فقد أوصى طاهرُ بن الحسين (ت /822م) -وكان من كبار قادة الخليفة المأمون وهو مؤسس الدولة الطاهرية بخراسان- ابنَه عبد الله بن طاهر (ت 230هـ/844م) حين ولّاه المأمون بعض البلاد؛ فقال له: “اجعلْ في كل كُورة (= منطقة) من عملك أمينًا يُخبرك أخبارَ عُمّالِك، ويكتبُ إليك بسِيَرِهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاينٌ لأموره كلها”؛ حسب ابن طيفور (ت 280هـ/894م) في ‘كتاب بغداد‘.
ومن عجبٍ أن الحكام كانوا يرتبون مُخبراً أمنيا على الموظف، ثم يجعلون على هذا المخبر مخبرا آخر، ثم مخبرا ثالثًا عليهما جميعًا، وهو أدق ما يمكن تصوره فيما يُعرف اليوم بـ”الاستخبارات الإدارية” لمكافحة الفساد! فالمقريزي يذكر في ترجمة عبد الله بن دسومة (ت قبل 270هـ/884م) أن أحمد بن طولون (ت 270هـ/884م) أقامه “أمينا على أبي أيّوب أحمد بن محمد بن شجاع لمّا أقرّه على الخَرَاج (= وزارة المالية) من قِبله، وجعل نُعيمًا المعروف بـ‘أمين الذُّويب‘ عينًا عليهما”!!
كان ‘أصحاب الأخبار‘ يراقبون نفقات كبار الموظفين ولا سيما القضاة منهم، فيقارنون بينها وبين مدخولاتهم لكشف فسادهم بالرشوة؛ فقد أورد ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- أن المأمون عاتب القاضي بشر بن الوليد في فساد زملائه من القضاة
وكان ‘أصحاب الأخبار‘ يراقبون نفقات كبار الموظفين ولا سيما القضاة منهم، فيقارنون بينها وبين مدخولاتهم لكشف فسادهم بالرشوة؛ فقد أورد ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- أن المأمون عاتب القاضي بشر بن الوليد (ت 238هـ/852م) في فساد زملائه من القضاة؛ فخاطبه قائلا: “ولّينا رجلا -أشرتَ به علينا- قضاءَ الأُبُلّة (= اليوم منطقة العشار بالبصرة)، وأجرينا عليه ألف درهم (= اليوم 1200 ألف دولار أميركي تقريبا)، ولا له ضيعة ولا عقار ولا مال، فرجع ‘صاحب الخبر‘ بالناحية أن نفقته في الشهر أربعة آلاف درهم؛ فمن أين هذه الثلاثة آلاف درهم؟!”. وقد تكرر هذا الأمر أيام المتوكل مع “صاحب الخَرَاج” بالأهواز عمر بن فرج الرخجي (ت نحو 240هـ/854م).
ولم يكن يسلم من هذه المراقبة أحد حتى وليُّ عهد الخليفة! فالطبريّ يروي -في تاريخه- عن الشاعر المؤمل المحاربيّ (ت نحو 190هـ/806م) قصة جرت له مع المهديّ (ت 169هـ/785م) ووالده المنصور؛ يقول الشاعر: “قدمتُ عليه [أي: المهدي] الرّيّ وهو ولي عهد، فأمر لي بعشرين ألف درهم (= اليوم 25000 دولار تقريبا) لأبيات امتدحتُه بها، فكتب بذلك ‘صاحب البريد‘ (= موظف المخابرات) إلى المنصور..، فكتب إليه المنصور.. يلومه”؛ ثم قبض عليه واستردّ منه ستة عشر ألف درهم.
كان ‘أصحاب الأخبار‘ يصرفون جهدًا عظيمًا في مراقبة العامّة والمعارضين، بما يكادُ يقتربُ -مع حفظ فروق الزمان والمكان والإمكان- مما تفعله المخابرات المعاصرة؛ بل إنه كان يشمل من يمدح المغضوبَ عليهم من السلطة حتى ولو بعد موتهم، فالذهبيّ يروي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه لَمَّا صُلِبَ جَعْفَرٌ (بن يحيى البرمكي ت 190هـ/806م) وَقَفَ الرَّقَاشِيُّ الشَّاعِرُ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا خَــــوْفُ وَاشٍ ** وَعَـــيْنٍ لِلْخَــــلِيفَةِ لا تَـــنَامُ
لَطُفْنَا حَوْلَ جِذْعِكَ وَاسْتَلَمْنَا ** كَمَا لِلنَّاسِ بِالْحَجَرِ اسْتِلامُ”!
ومن عجائب الملاحقة الأمنية للمعارضين بعد وفاتهم ما حكاه ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- ضمن أحداث سنة 237هـ/852م؛ فقال إنه “في عيد الفطر من هذه السنة أمر (الخليفة) المتوكل (ت 247هـ/861م) بإنزال جثة [الثائر المصلوب الإمام] أحمد بن نصر الخزاعي (ت 231هـ/846م) ودفعه إِلى أوليائه..، فاجتمع العوام يتمسحون بجنازته وبخشبة رأسه؛ فكتب ‘صاحب البريد‘ بذلك، فنهى المتوكل عن اجتماع العامة”.
رصد دقيق
وممن عُرف بكفاءة مخابراته الخليفة العباسيّ الناصر، حتى إن المؤرخين يذكرون من قوتها أنه كانت تُرفع إليه التقارير متضمنة تفاصيل الموائد المقدمة للضيوف، ويوردون قصصا في ذلك!! ويحكون أنه “كان له ‘أصحاب أخبار‘ يطالعونه بما يحدث وما يرونه من الأمور في كل صَقْع (= ناحية)، فخافه الناس خوفًا شديدًا وهابوه، وكان الإنسان في العراق لا يجسر أن يجري في بيته وخلوته ما يَخاف الإنكارَ عليه منه، حتى كان يتوهم من أهل بيته وأخص الناس به أن ينقل خبره إلى الخليفة”!؛ حسب تعبير ابن واصل الحموي (ت 697هـ/1298م) في ‘مفرِّج الكروب‘.
وقبله اشتهرت سطوة مخابرات الحاكم الفاطمي (ت 411هـ/1021م) التي دخلت كل بيت فسجلت حتى تفاصيل قصص الحب بين الرجال والنساء؛ فابن الجوزي (ت 597هـ/1200م) يخبرنا -في ‘المنتظم‘- أنّه “رَتّب في كل درب (= شارع) ‘أصحاب أخبار‘ يطالعونه بما يعرفونه، ورتبوا لهم عجائز يدخلن الدُّور ويرفعن إليهم أخبار النساء، وأن فلانا يحب فلانة وفلانة تحب فلانا، وأن تلك تجتمع مع صديقها وهذا مع صاحبته، فكان ‘أصحاب الأخبار‘ يرفعون إليه ذلك، فيُنْفِذ (= يرسل) من يقبض على المرأة التي سمع عنها مثل ذلك، فإذا اجتمع عنده جماعة منهن أمر بتغريقهن، فافتضح الناس وضجوا من ذلك”!
ثم لم يلبث الحاكم الفاطمي -في إحدى نوبات تقلب قراراته المعروفة- أن انقلب على مخابراته سنة 399هـ، فـ”قتل ‘أصحاب الأخبار‘ عن آخرهم لكثرة أذيتهم الناس بالكذب عليهم وأخذهم الأموال من الناس”؛ طبقا للمقريزي في ‘اتعاظ الحنفا‘.
أما قصص متابعة المنتقدين لأداء السلطة والملاحقة على مجرد الكلمة الاحتجاجية فزاخرة متكاثرة، مهما كانت هامشية موقع المنتقِد؛ فنجد مثلا في ‘الإنباء في تاريخ الخلفاء‘ لابن العمراني (ت 580هـ/1184م) أن المعتضد العباسي (ت 289هـ/902م) “كان له ‘أصحاب أخبار‘ يرفعون إليه كل ما يجري في الأسواق، فرفع إليه بعض ‘أصحاب الأخبار‘ أن إسكافًا (= صانع أحذية) قال لقطّان (= بائع قطن) وقد طالبه بدين كان له عليه وكان يمطله به: ما بقي للمسلمين من ينظر في أحوالهم”! فغضب المعتضد لذلك وأرسل إلى هذا الإسكاف المسكين من يُرهبه!!
كما كان رجال المباحث مكلفين بمراقبة التوترات التي كانت تحصل أحيانا بين تيارات المجتمع الفكرية وغيرها؛ ومن نماذج ذلك ما أورده الإمام ابن الجوزي -في ‘مناقب الإمام أحمد‘- من أن بعض حنابلة بغداد كانوا “يأتون على أهل البدع حتى يكون بينهما الشر؛ فقال [الخليفة المتوكل] لصاحب الخبر: لا ترفع إليَّ من خبرهم شيئا، وشُدَّ على أيديهم فإنهم وصاحبهم (= الإمام أحمد) من سادات أمة محمد ﷺ”!!
وبسبب كثرة الوشاة الذين كانوا يتجسسون على المثقفين والعلماء في حلقات تدريسهم؛ استجاز فقهاءُ -لأنفسهم وتلامذتهم- الكذبَ خلال جلسات التحقيق الأمنيّ معهم. فقد نقل الذهبيّ -في ‘سير أعلام النبلاء‘- عن أحد تلامذة الإمام والوزير الكبير رجاء بن حيوة (ت 112هـ/730م) أنه قال: “كنا مع رجاء بن حيوة، فتذاكرنا شكر النعم، فقال: ما أحدٌ يقوم بشكر نعمة! وخلفنا رجل على رأسه كساء، فقال: ولا أميرُ المؤمنين؟ فقلنا: وما ذِكْرُ أميرِ المؤمنين هنا؟! وإنما هو رجل من الناس.
قال (= تلميذ رجاء): فغفلنا عنه، فالتفت رجاء فلم يره، فقال: أُتِيتم من صاحب الكساء! فإن دُعيتم فاستُحلفتم فاحلفوا [كذباً]. قال: فما علمنا إلا بحرسي قد أقبل عليه، قال: هيه يا رجاء! يذكر أمير المؤمنين، فلا تحتج له؟!”، فأنكر رجاء الواقعة وحلف على ذلك تقيّةً، فرجع الحرسي إلى الواشي فضربه على وشايته “الكاذبة”!!
كمائن ودوريات
كان من الترتيبات الأمنية للدول تسيير كمائن عسكرية تُسمّى “المسالح” لمراقبة الحدود بين الأقاليم، وكثيرا ما كانت مصحوبة بمكلفين بمهمات استخباراتية؛ فقد ذكر الأصفهاني (ت 356هـ/966م) -في ‘مقاتل الطالبيين‘- أنه حين قرر العباسيون ملاحقة إدريس العلوي (ت 177هـ وهو مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب) وضعوا “على الطريق مسالح ومعهم ‘أصحاب أخبار‘ تفتش كل من يجوز الطريق”.
وفي مواجهة تفتيش مُخبري هذه “المسالح”؛ كانت تجري مراسلات سريّة يتفنن أصحابها كثيرا في طرق إخفائها؛ فالطبريّ يقول -في تاريخه- إنه قـُبيل اندلاع صراع الأمين (ت 198هـ/814م) والمأمون العباسييْن على عرش الخلافة (193-198هـ/808م -813م) اهتمّ وزير الأمين “الفضل بن الربيع (ت 208هـ/823م).. بالمراصد لئلا تُجاوِزُ الكتبُ الحدَّ (= الحدود)، فكتب الرسولُ (= رسول المأمون ببغداد) مع امرأة، وجعل الكتاب وديعةً في عُودٍ منقور من أعواد الإكاف (= برذعة الحمار)، وكتب إلى ‘صاحب البريد‘ بتعجيل الخبر. وكانت المرأة تمضي على المسالح كالمُجتازة من القرية إلى القرية، لا تُهاج ولا تفتَّش! وجاء الخبر إلى المأمون موافقًا لسائر ما ورد عليه من الكُتب” بشأن تآمر الأمين عليه لخلعه من ولاية العهد.
تعددت فروع الاستخبارات الإسلامية؛ فكان منها الفرع المدني المعروف بـ‘صاحب الخبر‘ عند الإطلاق، ومنها الفرع العسكري الذي كان يُدعى ‘صاحب خبر العسكر‘، وفي العهد الأيوبي والمملوكي أصبح يسمى ‘اليَزَك‘.
وبتعدد الفروع كثرت مصادر المعلومات من عيون وجواسيس، وأتقنوا سُبُل التخفّي والتمويه والتشفير حتى وضعوا فيه كتب “فنّ المُعمَّى” الخاص بتعليم كيفية تركيب “الشيفرة” وحلّها، كما تنوعت طُرُقهم في توصيل التقارير حتى باستخدام الحمام الزاجل الذي كانوا يسمونه “الحمام الرسائلي” أو “طير البطائق”، أي قصاصات الورق الصغيرة التي يحملها متضمنة الأخبار بكتابات مختصَرة ومشفَّرة يسمونها “المُلَطَّفات”.
ويحدثنا القلقشندي عن كيفية استخدام هذا الحمام عبر أبراج تشغيل تعتبر “مطارات” لرحلاته الاستخباراتية؛ فيقول إنه “جرت العادة أن تُكتب بطاقتان وتؤرخان بساعة كتابتهما من النهار، ويعلّق منهما في جناح طائر من الحمام الرسائلي ويرسلان، ولا يُكتفَى بواحد لاحتمال أن يعرض له عارض يمنعه من الوصول إلى مقصده. فإذا وصل الطائر إلى البرج الذي وُجِّه به إليه، أمسكه البرّاج (= عامل البرج) وأخذ البطاقة من جناحه وعلّقها بجناح طائر من حمام البرج الذي يليه..، حتى ينتهي إلى برج القلعة [بالقاهرة]، فيأخذ البرّاجُ الطائرَ -والبطاقةُ في جناحه- ويحضره بين يديْ الدَّوادار الكبير (= سكرتير السلطان) فيُعرَض عليه، فيضع البطاقة عن جناحه بيده”.
واجهات متنوعة
ومن العجب أن “واجهات عمل” أجهزة المخابرات القديمة لا تختلف كثيرا عما يدور اليوم في العمل الاستخباري بأنحاء العالم. ومن ذلك أنهم كانوا مثلا يتخفّون في صورة تجّار يجوبون البلدان ببضائعهم، فياقوت الحمويُّ (ت 626هـ/1229م) يحكي -في ‘معجم البُلدان‘- أن المنصور أمر -بناء على نصيحة أحد بطارقة الروم- بإنشاء الأسواق خارج سور بغداد، لأنه “يوافي الجاسوس من جميع الأطراف فيدخل [المدينة].. بعِلّة التجارة -والتجار هم بُرُدُ (= جمع بريد) الآفاق- فيتجسس الأخبارَ ويعرف ما يريد، وينصرف من غير أن يعلم به أحد”!
وتارةً يتخفّى هؤلاء الجواسيس في صورة متسوّل رثّ الثياب، حتى إنه صار يُتَّهم بالتخابر من تقشف جدا في ملبسه من العلماء والزهاد؛ ويذكر الذهبيّ -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن الإمام الزاهد أبا الفضل العجلي (ت 454هـ/1062م) “دخل كرمان (= تقع اليوم بإيران) في هيئة رثّة..، فحُمل إلى الملك وقالوا: هو جاسوس”! ثم لما عَلِم الملك حقيقته أكرمه وعظّمه. ويخبرنا الدَّواداري (ت بعد 736هـ/1335م) -في ‘كنز الدرر‘- أنه “بسبب مَنْ تزيَّا مِن الجواسيس بِزيّ الفقراء (= الصوفية) قُتِلَ جماعةٌ من الفقراء الصلحاء رجمًا بالظن” أنهم جواسيس!!
وربما أثار الشكَّ الأمنيَّ في العلماء وطلبة العلم أن يظهروا بزي لافت غير مألوف لأمثالهم حتى ولو لم يكن متقشفا؛ وقد يؤدي ذلك إلى حرمانهم من المشاركة في حضور جلسات التحصيل العلمي لأساتذتهم؛ فقد أورد الإمام مجد الدين ابن الأثير (ت 606هـ/1209م) -في ‘جامع الأصول‘- في ترجمة الإمام المحدِّث النسائي (ت 303هـ/915م) -صاحب كتاب ‘السُّنن‘- أنه دخل مصر طلبا للحديث، فلما جاء إلى قاضيها المحدّث الحارث بن مسكين المالكي (ت 250هـ/864م) “لم يمكنه حضور مجلسه” العلمي!!
ويضيف ابن الأثير أن إحدى الروايات تعلل ذلك المنع بأن “الحارث كان خائضا في أمور تتعلق بالسلطان (= ينتقد السلطة)، فقدم أبو عبد الرحمن [النسائي] فدخل إليه في زيٍّ أنكره، قالوا: كان عليه قَباءٌ (= قفطان) طويل وقَلَنْسُوةٌ (= غطاء رأس) طويلة، فأنكر زيَّه وخاف أن يكون من بعض جواسيس السلطان، فمنعه من الدخول إليه”.
ولذلك كان النَّسائي حين يأتي حلقة الحارث العلمية “يستتر في موضع ويسمعـ[ـه] حيث لا يراه، فلذلك تورَّع وتحرَّى” في روايته عنه التزاما بالأمانة العلمية، فكان “يقول في كتابه: «[قال] الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع»، ولا يقول فيه: «حدثنا» ولا «أخبرنا» كما يقول عن باقي مشايخه”!!
تجنيد متعدد
أورد القاضي التنوخي (ت 384هـ/994م) -في ‘الفرَج بعد الشدة‘- قصة طويلة من غرائب الخيال الاستخباراتي، تتحدث عن تجسس المعتضد على وزيره القاسم الحارثي (ت 291هـ/904م)، عبر رجل من الهاشميين كان يعمل له مُخبرا في هيئة متسوّل كسيح، يأتي يوميا بيت الوزير فيظل ينتقل من غرفة إلى أخرى حتى المطبخ، فيرصد ما دار فيه ومن زاره، وفي المساء يرفع بذلك تقريرا إلى “مشغِّله الأمني”، ويأخذ مقابل ذلك “في كل شهر خمسين دينارا (= اليوم 8000 دولار تقريبا)”!! ولهذا النص دلالته الفريدة على ما قد تبلغه رواتب المخبرين الأمنيين في تلك العصور من ضخامة!
أما أعجبُ أساليب التستّر المخابراتي فهو -كما يحصل كثيرا اليوم للأسف- ذاك الذي جعل من إمامة المصلين بالمساجد واجهةً للتغطية على النشاط الاستخباريّ لصالح الأمراء والسلاطين! فقد ذكر ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- قصة الشاعر عليّ بن أفلح العبسي (ت 535هـ/1140م) الذي كان كاتبا مقرَّبا من الخليفة العباسيّ المسترشد (ت 529هـ/1134م).
ثم اتضح أن لابن أفلح العبسي هذا علاقة بأمير بادية العراق دُبَيس بن صَدَقة الأسدي (ت 529هـ/1134م)، فكان يتجسس له على الخليفة ويدير مراسلاته معه عبر عميل آخر بتغطية من إمام مسجد!! وسبب انكشاف أمره أنه “كان في المسجد الذي يحاذي دار السماك رجلٌ يقال له ‘مكي‘ يصلي بالناس ويُقرئ القرآن، فكان إذا جاء رسولُ دُبَيس [للتواصل مع الشاعر ابن أفلح] أقام عند ذلك الإمام بزِيّ الفقراء (= الصوفية)، فاطّلع على ذلك بوّابُ ابن أفلح، واتفق أن ابن أفلح غضب على بوّابه فضربه فاستشفع بالناس عليه فلم يردَّه، فمضى [البوابُ] وأطْلع صاحبَ الشرطة على ذلك [انتقامًا من مولاه]، فمضى فكبس (= دَهَم) المسجدَ وأخذ الجاسوس، وهرب ابنُ أفلح وإمامُ المسجد”!
ثم اتضح أن للعبسي هذا علاقة بأمير بادية العراق دُبَيس بن صَدَقة الأسدي (ت 529هـ/1134م)، وأنه “كان في المسجد الذي يحاذي دار السماك رجلٌ يقال له ‘مكي‘ يصلي بالناس ويُقرئ القرآن، فكان إذا جاء رسولُ دُبَيس أقام عند ذلك الإمام بزِيّ الفقراء (= الصوفية)، فاطّلع على ذلك بوّاب ابن أفلح، واتفق أن ابن أفلح غضب على بوّابه فضربه فاستشفع بالناس عليه فلم يردَّه، فمضى [البوابُ] وأطْلع صاحبَ الشرطة على ذلك [انتقامًا من مولاه]، فمضى فكبس (= دَهَم) المسجدَ وأخذ الجاسوس، وهرب ابنُ أفلح وإمامُ المسجد”!
وفي سبيل استخدام كل طاقات المجتمع -مهما بدت منبوذة- لتحرير الأوطان؛ رأينا صلاح الدين يجنّد عصابات اللصوص في مخابراته الحربية، موظفا “شطارتهم” وجسارتهم لمحاربة الصليبيين. ولذلك يقول مؤرخ سيرته القاضي ابن شداد (ت 632هـ/1235م) -في ‘النوادر السلطانية‘- إنه “رتّب (= جنّد).. ثلاثمئة لص من شلوح العرب، [فكانوا] يدخلون [معسكرات الصليبيين] ويسرقون منهم أموالَهم وخيولهم، ويسرقون الرجال أحيانا” باختطافهم -وهم نائمون- تحت تهديد السلاح، فيأتون بهم أسرى إلى معسكر المسلمين!!
عيون منزلية
بل إن التجنيد الاستخباراتي وصل إلى إحدى أكثر فئات المجتمع حساسية، وهي فئة مدرسي كتاتيب الأطفال الذين كانوا -وهم ذوو طبيعة عفوية- بوابة لجمع كافة أخبار بيوت عوائلهم، ولا سيما منازل القادة العسكريين في الدولة؛ مستغلين في ذلك ما نبّه عليه الجاحظ -في رسالة ‘كتمان السر وحفظ اللسان‘- من أن “أكثر ما يُذيع أسرارَ الناس أهلوهم وعبيدُهم وحاشيتُهم وصبيانُهم، ومن لهم عليهم اليدُ والسلطانُ”!!
ولذا يحدثنا الوزير العباسي المُصْلِح أبو شجاع ظهير الدين الرُّوذْرَاوَرِي (ت 488هـ/1095م) -في ‘ذيل كتاب تجارب الأمم لمِسْكَوَيْه‘- أنه “كان معلمو الصبيان مواقَفين (= مُلزَمين) على أن يَسألوا أولاد الجُند الذين في مكاتبهم عن أمور آبائهم، ومتصرفات أحوالهم في منازلهم، ويكتبون بذلك إلى ‘ديوان البريد‘، ولهم على ذلك رزق دارٌّ (= راتب كبير)”!!
ولم يقتصر التجنيد الاستخباري على الرجال والأطفال؛ بل شمل النساء أيضا خاصة أنهن قادرات -بخلاف الرجال- على الدخول إلى أعماق البيوت، فكانت المُخبراتُ يدخلن الدُّورَ مستأمَناتٍ ويَخرجهن بأدقّ أخبار أهلها. ومن أقدم قصص ذلك وأغربها في طرق التجنيد وتعدد الواجهات الاستخباراتية فيه؛ ما حكاه إبراهيم بن محمد البيهقي (ت نحو 320هـ/933م) -في ‘المحاسن والمساوئ‘- من أن المنصور أجرى بنفسه مرة تحقيقا أمنيا مصحوبا بتعذيب مع جارية للعلويين، طالبا منها معلومات عن قائد ثورتهم محمد بن عبد الله المعروف بـ‘النفس الزكية‘ (ت 145هـ/762م).
لكن الجارية صمدت في التحقيق و”أبت إلا الجحود، فقال لها [المنصور]: أتعرفين فلانة الحجامة؟ فاسودّ وجهُها وتغيرت، فقالت: نعم يا أمير المؤمنين..! قال: صدقتِ، هي والله أمتي ابتعتها بمالي ورزقي يجري عليها في كل شهر..، أمَرْتُها أن تدخل منازلكم وتحجمكم وتتعرف أخباركم.
ثم قال: أوَتعرفين فلانا البقّال؟ قالت: نعم..، قال: هو والله مُضاربي (= مستثمِرٌ لي) بخمسة دنانير..، فأخبرني أن أمَةً (= خادمة) لكم يوم كذا وكذا من شهر كذا صلاة المغرب جاءت تسأله حنّاء ووَرَقاً، فقال لها: ما تصنيعن بهذا؟ فقالت: كان محمد بن عبد الله في بعض ضياعه بناحية البقيع وهو يدخل الليلة، فأردنا هذا لتتخذ منه النساءُ ما يحتجن إليه عند دخول أزواجهن من المَغيب، فأُسْقِط في يدها (= فُوجِئت) وأذعنت بكل ما أراد” المنصور من معلومات!!
ويخبرنا الذهبي -في السِّيَر‘- أن المنصور وظف في هذا الأمر مماليكه المتخفين في زي الرعاة من البدو، “فاشترى.. رقيقا من [عند] العرب، فكان يعطي الواحد منهم البعيرين، وفرّقهم في طلبه (= النفس الزكية) وهو مختفٍ”!!
هدايا تجسس
ومثله ما ورد عن ابنه المهديّ أنه أهدى لوزيره يعقوب بن داود (ت 187هـ/803م) جاريةً لتتجسس عليه وتراسله بخفايا أمور بيته. وقد أمر المهدي يوما وزيرَه بقتل أحد العلويّين كان يخشى ثورته عليه، فأطلقه الوزير خُفيةً قناعةً بأنه مظلوم وهرَّبه؛ قال يعقوب: “لم أشعر بأن الجارية قد أحاطت علمًا بما جرى وأنها كالجاسوس علي، فبعثتْ بخادمها إلى المهدي فأعلمتْه بما جرى، فبعث المهدي إلى تلك الطريق فردوا ذلك العلوي فحبسه عنده”، ثم قبض على يعقوب ونكّل به وحبسه؛ وفقا لابن كثير في ‘البداية والنهاية‘.
وإذا كان المهدي اتخذ من إهداء الجواري وسيلة للتجسس على موظفيه، في سلوك أشبه ما يكون بإهداء أجهزة المخابرات اليوم الشخصياتِ التي تستهدفها أجهزةَ الهواتف والساعات الملغمة برقاقات التنصت للتجسس عليهم عن بُعد؛ فإن أعجب منه ما كان يصنعه والي العباسيين على خراسان عمرو الصفّار (ت 289هـ/901م) من إهداء الغلمان لنفس الغرض؛ فقد “كان عمرو يشتري المماليك ويربّيهم ويَهَبُهُم لقُوّاده، فيكونون ‘أصحاب أخبار‘ عليهم، ويُجري عليهم الجرايات (= الرواتب) سِرًّا، فلا يخفى عنه خبرٌ” مما يفعله هؤلاء القادة؛ طبقا للدَّواداري في ‘كنز الدرر‘.
وعلى خُطى الرجلين؛ سار حفيدهما المأمون الذي يبدو أنه تجاوزهما بمراحل في تجنيد النساء، حتى صار له -إن صحت الرواية التاريخية- “جيش” من العجائز يوافيه بخفايا زوايا بيوت عاصمته بغداد. فقد ذكر العلامة السكتواري الحنفي (ت 1007هـ /1599م) -في ‘محاضرات الأوائل‘- أن “المأمون هو أول من اتخذ الجواسيس من العجائز، جعل ألف عجوز وسبعمئة عجوز يتفقد بهن أحوال الناس من الأشقياء، ومن يُحبه ويبغضه، ومن يُفسد حُرُم المسلمين”!
كان ‘صاحب الخبر‘ -بوصفه مديرا لاستخبارات الدولة بمنطقته- ذا صلاحيات واسعة، ويبدو أنه كان يملكُ “ضبطية قضائية” تسمح له بتفتيش البيوت، بل و”القلوب” باستحلاف المستجوَبين بأغلظ الأيمان!
فالذهبيّ يروي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه رُفع بلاغٌ في الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) بأنه يُخفي بداره أحد المطلوبين للدولة، فدهمه ليلاً ‘صاحبُ الخبر‘ “فأحلفه بالطّلاق ثلاثًا أنّ ما عنده طُلْبةَ أميرِ المؤمنين..، وفتَّشوا [الـ]ـمنزل.. والسَّرَب والغُرَف والسُّطُوح، وفتَّشوا تابوت الكُتُب، وفتّشوا النّساء والمنازل، فلم يروا شيئًا..؛ فكُتب بذلك إلى المتوكّل..، وعلم أنّ.. [أحمد] مكذوبٌ عليه”.
وإذا كانت الدول على مرّ التاريخ الإسلاميّ حرصت -في بناء أجهزة مخابراتها- على كفاءة عمل ‘ديوان البريد والخبر‘، وعُنيت بـ‘أصحاب الأخبار‘ أبلغ العناية؛ فقد كان لبعض سلاطينها موقفٌ كارهٌ لمن يتطوّعُ لرفع أخبار العامة إليهم، فوق كراهيته من نُخَب الناس وعوامهم، لاسيما أن “الناس إلى السلطان بعورات الإخوان سراعُ”؛ كما يقول الأديب عبد الله بن المُقَفَّع (ت 143هـ/761م) في كتابه ‘الأدب الصغير والأدب الكبير‘.
ولذلك رفض مثلا الإمامُ أحمد الوشايةَ لدى السلطان حتى بفُسّاق الناس، فابن رجب الحنبليّ (ت 795هـ/1393م) يقول في ‘جامع العلوم والحكم‘: “وكره الإمام أحمد رفع الفساق إلى السلطان بكل حال”. وشاعت بينهم مقولة أن “السعاية قبيحة ولو كانت صحيحة”!!