• السبت. مارس 29th, 2025

للمرة الأولى، تعتمد عيادة بريطانية على الذكاء الاصطناعي لفحص المرضى. لكن هل يمكنها فعلاً تخفيف الآلام المزمنة؟

الشركة المعروفة باسم “فلوك هيلث” تقدم خدمة تُعتبر الأولى من نوعها، حيث تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتشغيل عيادة صحية بالتعاون مع هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية (NHS). هذه العيادة، التي حصلت على موافقة لجنة جودة الرعاية الصحية لتقديم خدماتها كجهة رعاية صحية مسجلة، بدأت استقبال المرضى مع نهاية عام 2024.

السبب وراء هذه الخطوة: تواجه العديد من الأشخاص صعوبة في الحصول على علاج لآلام أسفل الظهر، وهي مشكلة منتشرة عالميًا وتؤثر على ملايين الأشخاص. في إنجلترا وحدها، كان حوالي 350 ألف مريض ينتظرون علاج مشاكل الجهاز العضلي الهيكلي في سبتمبر 2024، مما أدى إلى تكلفة اقتصادية وبشرية كبيرة. وفي عام 2022، خسرت المملكة المتحدة 23.4 مليون يوم عمل بسبب هذه الحالات.

عيادة فلوك تهدف إلى تقديم العلاج بسرعة، مما يخفف الضغط عن هيئة الخدمات الصحية الوطنية ويساعد المرضى على تجنب تفاقم حالاتهم. ومع ذلك، يظل السؤال قائماً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون الحل الأمثل؟

بالإضافة إلى تدريبه كطبيب، قضى فين ستيفنسون جزءًا من حياته كرياضي محترف في مجال التجديف ضمن برنامج التطوير الأولمبي البريطاني. من مارس التجديف أو حتى استعمل جهاز التجديف في صالة الألعاب الرياضية يدرك تمامًا أن هذه الرياضة تُعتبر وسيلة ممتازة للحفاظ على اللياقة، لكنها أيضًا قد تؤدي إلى آلام شديدة في الظهر إذا لم يكن الشخص في أفضل حالاته الجسدية. في أثناء مسيرته كرياضي محترف، كان ستيفنسون يتمتع بسهولة الوصول إلى نخبة الأطباء وأخصائيي العلاج الطبيعي الذين كانوا يقدمون له الرعاية اللازمة فورًا. لكن عندما ترك التجديف وعادت آلام ظهره للظهور، اكتشف بنفسه مدى صعوبة تلقي الرعاية بالنسبة للأشخاص العاديين.

يقول ستيفنسون، الذي يشغل الآن منصب الرئيس التنفيذي لشركة “فلوك”: “كانت صدمة حقيقية أن أكتشف الفارق الهائل في سهولة الحصول على الرعاية الصحية بيني كرياضي محترف وبين أغلبية الناس العاديين.” وأوضح أنه، نظريًا، كان يفترض أن يكون في وضع مثالي لتشغيل خدمة من هذا النوع بفضل خلفيته الأكاديمية وخبرته في العلاج الطبيعي، لكنه أدرك أن المعاناة من صعوبة الوصول للرعاية الصحية ليست حكرًا عليه فقط.

تعرف ستيفنسون على شريكه المؤسس ورئيس قسم التكنولوجيا في “فلوك”، ريك دا سيلفا، عندما كانا يعملان معًا في شركة “سي إم آر سيرجيكال”، وهي شركة ناشئة بريطانية متخصصة في تطوير روبوتات لجراحة الأنسجة الرخوة. لكن من خلال مشروع “فلوك”، ركزا على توفير العلاج للأشخاص الذين لا تتطلب حالاتهم التدخل الجراحي. الهدف كان مساعدة المرضى الذين يعانون من مشكلات بسيطة ويمكن التحكم في الألم الناجم عنها بسهولة.

وأوضح دا سيلفا: “الكثير من الحالات البسيطة لا تحتاج إلى إجراء فحوصات مكثفة أو تدخلات يدوية أو حتى أدوية. في أغلب الأحيان، يكفي المريض ممارسة التمارين الصحيحة لعشر دقائق عدة مرات في الأسبوع، وهذا كفيل بحل المشكلة.” وأضاف أن هذه الفكرة تسمح للأطباء بتخصيص وقتهم وجهودهم لرعاية المرضى الذين يحتاجون إلى عناية طبية أكثر تعقيدًا.

عندما فتحت تطبيق “فلوك” للمرة الأولى، ظهرت لي “كيرستي”، أخصائية العلاج الطبيعي الافتراضية، في مقطع فيديو مسجل مسبقًا، محاطة بأدوات رياضية بسيطة في بيئة مريحة. طلبت مني الإجابة عن مجموعة من الأسئلة المتعلقة بصحتي وألمي من خلال واجهة تفاعلية تعتمد على اختياراتي. بناءً على إجاباتي، قدم الذكاء الاصطناعي التعليمات المناسبة، وكل خطوة تفاعلية تفتح أسئلة أو إرشادات إضافية.

تطبيق “فلوك”، بعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي التقليدية مثل “تشات جي بي تي”، يعتمد على لغة مخصصة لوصف التفكير السريري بدقة. وأشار ستيفنسون إلى أن هذا النهج يمنع مشاكل معروفة في الذكاء الاصطناعي مثل “الهلوسة”، حيث قد تخترع الخوارزميات معلومات غير صحيحة. بدلاً من ذلك، يعمل التطبيق كمنصة تفاعلية تتيح تخصيص التمارين بناءً على احتياجات المستخدم.

ستيفنسون يرى أن هذا النظام أشبه بـ”كتاب مغامرات تفاعلية” بفضل وجود أكثر من مليار خيار وتركيبة مختلفة للتدخلات العلاجية، مشيرًا إلى أن البرمجيات هي الوسيلة الأمثل لتقديم خدمات طبية قابلة للتوسع إذا أُديرت بطريقة مدروسة.

تُوسّع عيادة “فلوك” عملياتها باستمرار. بعد إطلاق خدماتها الأولى في اسكتلندا بنهاية العام الماضي، وقعت الشركة مؤخرًا عقودًا لافتتاح مواقع جديدة في إنجلترا، رغم أن ستيفنسون لم يعلن بعد عن هذه المواقع بالتحديد. ويأمل ستيفنسون أنه في غضون الأشهر الـ 12 القادمة، ستتمكن “فلوك” من تغطية نصف المملكة المتحدة على الأقل. بالإضافة إلى ذلك، تسعى العيادة إلى تقديم خدمات لعلاج آلام أخرى، مثل هشاشة العظام في الورك والركبة وآلام منطقة الحوض لدى النساء.

عيادة “فلوك” ليست الجهة الوحيدة التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لمعالجة آلام الجهاز العضلي الهيكلي. تطبيق آخر، يُسمى “سيلف باك” (selfBACK)، يعتمد على الذكاء الاصطناعي لمساعدة المرضى في إدارة آلام أسفل الظهر والرقبة. التطبيق يخضع حاليًا لتجارب سريرية في الولايات المتحدة كخدمة مكملة للرعاية الصحية التقليدية.

مثل “فلوك”، يعمل “سيلف باك” على تحليل البيانات من تجارب المرضى السابقة، ليُوصي بخطط تمرين شخصية بناءً على تلك التحليلات. الدراسات أظهرت أن التطبيق قد يُساعد في تقليل الألم لدى مستخدميه، لكن تجربة حديثة أظهرت أن معدل الاستخدام كان بطيئًا؛ حيث لم يستخدم ثلث المشاركين التطبيق مطلقًا، بينما استخدمه ثلث آخر لفترات قصيرة فقط. خلاصة الأطباء والمرضى كانت أن التطبيق يجب أن يُستخدم لدعم الرعاية الصحية التقليدية وليس ليحل محلها. الدراسات حذرت أيضًا من أهمية توفير هذه التطبيقات كإضافة إلى الرعاية الصحية وليس كبديل لها.

رغم التساؤلات حول كيفية دمج الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية، تشير الأبحاث إلى أن تطبيقات الهاتف التي تركز على الصحة تُعد نهجًا واعدًا لمساعدة المرضى على التعامل مع آلام الظهر. إليزابيث أ. ستيوارت، أستاذة ورئيسة قسم الإحصاء الحيوي بكلية بلومبرغ للصحة العامة في جامعة جونز هوبكنز، أكدت أن أدوات الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية تحتاج إلى الخضوع لنفس معايير التقييم الدقيقة التي تُطبق على التدخلات الطبية التقليدية، مثل الموافقات التنظيمية ومراجعات الأداء والمقارنات مع البدائل.

أوضحت ستيوارت أن أدوات الذكاء الاصطناعي مشابهة للتدخلات الطبية الأخرى التي يجب تقييم آثارها بدقة. وأضافت أننا بحاجة إلى دراسة فعاليتها، ومعرفة مدى تأثيرها، وتحديد الفئات المستفيدة منها تمامًا كما نفعل مع الإجراءات الطبية الأخرى. كما شددت على أهمية إدراك أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تستمر في التطور بعد إطلاقها، مما يعني أن بعض الأدوات قد تتكيف تلقائيًا مع مرور الوقت.

قارنت ستيوارت أدوات الذكاء الاصطناعي بلقاحات الإنفلونزا السنوية التي تُقيم بدقة لتتناسب مع السلالات الفيروسية الجديدة. لكنها حذرت من أن بعض أدوات الذكاء الاصطناعي تُعتبر كصناديق سوداء تتغير خفيةً بمرور الوقت، مما يجعل من الصعب معرفة طريقة عملها بدقة.

براناف راجبوركار، الأستاذ المساعد في قسم المعلومات الطبية الحيوية بكلية الطب بجامعة هارفارد، يرى إمكانيات واعدة في استخدام الذكاء الاصطناعي لفرز المرضى. لكنه يعتقد أن أداء الذكاء الاصطناعي يكون أفضل عندما تُوزع المهام بوضوح بينه وبين الأطباء، بدلاً من العمل جنبًا إلى جنب على نفس الحالات، حيث يمكن أن يؤدي التعاون القسري إلى نتائج أقل كفاءة.

في حالة تطبيق “فلوك”، تعتمد الشركة على أخصائيين محترفين في العلاج الطبيعي يظهرون في مقاطع الفيديو، لكنهم أيضًا متاحون للإجابة عن أسئلة المرضى بعد جلساتهم. يتوقع راجبوركار أن المستقبل سيشهد تطورًا من الأدوات المحدودة إلى أنظمة ذكاء اصطناعي عامة يمكنها التعامل مع مهام متنوعة في مجالات مختلفة.

يقول راجبوركار إن الأنظمة الأكثر نجاحًا لن تكون تلك التي تسعى لاستبدال الأطباء، بل تلك التي تعمل بوعي على إعادة توزيع المهام السريرية لتحقيق رعاية صحية أكثر تركيزًا على الإنسان.

المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *