بعد احتلال الموصل، دخل عناصر داعش كنيسة أم المعونة الدائمة التابعة للكلدان الكاثوليك (تأسست عام 1944) وحطموا محتوياتها وحولوها إلى مقر لـ “ديوان الحسبة.” وضع عناصر التنظيم لوحة على باب الكنيسة تقول: “ممنوع الدخول بأمر الحسبة”، ولم ينج صليب ولا تمثال ليسوع أو مريم العذراء، بل إن كل إشارة إلى الديانة المسيحية أزيلت بشكل ممنهج. بعد ظهور تنظيم داعش في العراق وسوريا، عرف الناس “ديوان الحسبة” الذي هو بمنزلة شرطة الشوارع، يتولى مراقبة الناس والتضييق على حرياتهم، ومحاسبة مخالفي أوامر وتعليمات التنظيم وفق أحكام فورية، وينفذ عناصره عقوباتهم بالمخالفين أمام الجمهور في الأماكن العامة. نهب عناصر التنظيم كنائس المسيحيين وعاثوا فيها فسادا وسرقوا محتوياتها مع ادراكهم المسبق أن هذه أماكن عبادة لا يجوز المساس بها. خلال فترة وجوده في الموصل، قام داعش بتدمير ونسف عشرات الكنائس والأديرة والمدارس والمقابر التي تعود للطائفة المسيحية كما قام بقتل العشرات منهم وبينهم رجال دين وقساوسة كبار.
أصدر داعش قرارات تعسفية بحق المسيحيين ووضع حرف النون على أبواب وأسيجة بيوتهم لتمييزهم عن المسلمين. بسبب هذه النون المشؤومة، أضطر المسيحيون إلى الهرب من بيوتهم وترك ممتلكاتهم والعيش في معسكرات النازحين في مناطق أمنة وانتظار مساعدات دولية ومحلية قد تمنع عنهم الجوع والبرد والعطش. وبسبب النون ذاتها، اقتحم عناصر داعش بيوت المسيحيين وسرقوا ما غلا ثمنه وخف وزنه كـ “غنائم” كما أخذوا سياراتهم وأحرقوا محلاتهم التي كانت مصدر رزق لهم ولعوائلهم.
حسب مقابلة منشورة في موقع منظمة العفو الدولية عام 2014، أعطى عناصر داعش مارفين ووالديه المسنين وأخاه وأخته أربعة خيارات، حسب قوله: “الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية، أو مغادرة المدينة… أو قطع رؤوسهم. ثم رقم المقاتلون بالدهان حرف “ن” على بيتهم، ما يعني أنهم نصارى.” والنصارى في اللغة العربية الحديثة تختلف قطعا عن العربية الكلاسيكية أو عن كلمة المسيحيين كونها استعملت من قبل المتطرفين والإرهابيين بمعنى الازدراء والتقليل من شأن المسيحيين في العالم كله. يضيف مارفين في المقابلة ذاتها: “كالكثير من سكان الموصل المسيحيين، لم أملك خيارا سوى جمع المقتنيات والخروج من المدينة في اليوم التالي.” وأضاف: “أثناء مغادرتنا الموصل، سرقت داعش نقودنا وما نحمل من مصاغ. والآن لا سبيل أمامنا لمغادرة العراق، وما من سبيل للعودة إلى الموصل، وحياتنا قد انتهت إلى خراب”.
وهنالك قصة أخرى تؤكد اضطهاد عناصر داعش في الموصل للمسيحيين فعائلة أبو يوسف أجبرت أيضا على المغادرة عقب عثورها على الحرف “ن” مرقوماً على جدار بيتهم. حمل أبو يوسف وزوجته هناء أطفالهم وبعض المقتنيات القليلة وفروا إلى بلدة أخرى. كانت هناء تعمل طبيبة في مركز صحي في الموصل قبل اجتياح داعش للمدينة. أضافت هناء: “تركنا كل شيء وراءنا كي ننجو بأرواحنا. وأطفالنا اليوم يشعرون بالرعب إلى درجة أنهم يصحون في عتمة الليل وهم يصرخون.”
إضافة إلى تهريب النفط والآثار وبهدف زيادة موارده المالية، عرض داعش في المزاد العلني في عام 2016 بيوت المسيحيين وسياراتهم وممتلكاتهم الأخرى بعد هروبهم من بيوتهم إلى مناطق أخرى في الأشهر الأولى لاحتلال التنظيم للمدينة ووضعه حرف النون على أبواب أو جدران بيوتهم. لا توجد أي مسوغات قانونية ولا أخلاقية لهذه الأفعال ولا أرضية فقهية تبرر تهجير المواطنين ونهب ممتلكاتهم مهما كانت ديانتهم ولا مبرر لهم سوى فكرهم الظلامي الإجرامي الذي يعكس فهماً مشوها للدين والفقه ورفضاً كاملا لفكرة التعايش مع الأديان والطوائف الأخرى. سيبقى حرف النون وصمة عار في جبين المتطرفين وسيبقى أيضا في ذاكرة سكان الموصل، والمسيحيين خصوصا، دلالة على جرائم ارتكبها الدواعش في الماضي القريب.