• الأثنين. مايو 5th, 2025

نظام الحصص والقرعة في الحج: كيف يُقرر من يؤدي الحج ومن يبقى في الانتظار؟

في كل موسم للحج، تتكرر المشاهد نفسها: الآلاف يتقدمون بطلباتهم، قلة تُقبل، وكثيرون يترقبون فرصة لاحقة. فبالرغم من الرغبة والإمكانية، لا يُتاح للجميع أداء هذه الشعيرة، إذ تُنظم عملية الحج وفق إطار دولي دقيق يُعرف بـ”نظام الحصص”.

"حشد كبير من الحجاج يطوفون حول الكعبة المشرفة في الحرم المكي خلال موسم الحج، معظمهم يرتدون ملابس الإحرام البيضاء."
صورة | www.flickr.com


تُخصص المملكة العربية السعودية لكل دولة عدداً محدداً من الحجاج، يُحسب بناءً على قاعدة “حاج واحد لكل ألف مسلم من السكان”، بالتنسيق مع منظمة التعاون الإسلامي.

وفي العديد من الدول، تُجرى قرعة لاختيار الأسماء المقبولة من بين المتقدمين، استناداً إلى معايير عمرية وزمنية تتباين من بلد لآخر.

عندما أُقر نظام الحصص رسمياً عام 1987، لم يكن ذلك قراراً إدارياً فقط، بل استجابة حتمية للنمو السكاني بين المسلمين عالمياً، ومن ثم الزيادة المستمرة في أعداد الراغبين بأداء الفريضة. كان الهدف جلياً: الحد من مخاطر التزاحم والتدافع، وتنظيم موسم الحج ضمن حدود البنية التحتية المتوفرة.

لكن كيف كانت تُدار الأمور قبل هذا النظام؟ وما الذي حدث حتى أصبح تنظيم الأعداد ضرورة ملحة؟

في لقاء مع بي بي سي عربي، يوضح أحمد الحلبي، المتخصص في شؤون الحج والعمرة، أن التنظيم لم يكن يعتمد على نسب أو أرقام، بل كان متاحاً لمن استطاع الوصول.

يقول الحلبي: “في السابق لم تكن هناك نسبةٌ محددة لأعداد الحجاج القادمين إلى مكة كل عام، ولكن مع تزايد الأعداد ومحدودية القدرة الاستيعابية للشعائر المقدسة، كان لا بدَّ من تنظيم لهذه الأعداد”، مضيفاً: “لو عدنا قليلاً للسنوات التي سبقت القرار، لوجدنا أن أعداد الحجاج الذين قَدِموا تجاوزت المليون. محدودية المساحة هي التي فرضت الحاجة إلى التنظيم. مساحة مشعر مِنى أقل من ثمانية كيلومترات، والمستغل منها هو 61 في المئة فقط، أي أقل من خمسة كيلومترات بقليل، وذلك لأن بقية المناطق في مِنى جغرافيتها صعبة، وهناك حدود شرعية لمشعر مِنى، ولا يمكن الطلب من الحجاج المكوث خارج هذه المساحة بسبب ضوابط شرعية تتطلب وجودهم هناك في وقت معيَّن لإكمال حجهم”.

ومع تصاعد الضغط على المشاعر المقدسة خلال السبعينيات، بدأت المملكة محاولات لضبط الحشود. لكن ذلك لم يكن كافياً لتفادي الكارثة التي وقعت لاحقاً.

ومع تصاعد الضغط على المشاعر المقدسة خلال السبعينيات، بدأت المملكة محاولات لضبط الحشود. لكن ذلك لم يكن كافياً لتفادي الكارثة التي وقعت لاحقاً.

في صباح العاشر من ذي الحجة، الموافق 2 يوليو 1990، شهد الحج إحدى أبشع الكوارث في تاريخه الحديث.

داخل نفق المعيصم — نفق للمشاة يمتد حوالي 550 متراً ويصل بين مكة ومِنَى — وقع حادث تدافع مروع.

ما قبل النظام: ازدحام بلا حدود عددية أثناء توجه الحجاج لأداء شعيرة رمي الجمرات، تسبب انهيار حاجز على جسر فوق النفق في سقوط عدد من الحجاج، مما أدى إلى إغلاق مخرجه واحتجاز الآلاف داخله.

ومع ارتفاع الحرارة وتوقف نظام التهوية، تحول النفق إلى فخ مميت، أسفر عن وفاة 1,426 حاجاً، معظمهم من دول جنوب وجنوب شرق آسيا مثل ماليزيا وإندونيسيا وباكستان.

يرى الحلبي أن الحادثة كشفت بوضوح حجم الخلل في إدارة الحشود، قائلاً: “الحوادث عادةً تحصل في منطقة الجمرات، والسبب هو غياب التوعية من قبل مكاتب شؤون الحجاج في دولهم. مجموعة من الحجاج يريدون التوجه إلى جسر الجمرات في وقت واحد فتقع الحوادث. بعدها بدأت عملية تفويج الحجاج، أي تقسيمهم على أفواج لأداء هذا الجزء من المناسك. لم تنظر الحكومة السعودية إلى هذا الأمر من منطلق تنظيمي فقط، بل راعت فيه المذاهب الفقهية للحجاج، وجاء ذلك بعد اجتماعات مع مكاتب الحجاج وهيئات الحج”.

السياسة تتداخل مع تفاصيل التنظيم

ومنذ ذلك الحين، أصبح نظام الحصص أداة رئيسية لإدارة موسم الحج وضمان سلامة الملايين. ورغم أن النظام يُحسب نظرياً بمعادلة بسيطة، فإن الواقع أكثر تعقيداً، حيث تتداخل السياسة والظروف الاستثنائية مع تفاصيل التنظيم.

في عام 2016، غابت بعثة الحجاج الإيرانيين بالكامل بعد تصاعد التوتر الدبلوماسي بين طهران والرياض على خلفية حادثة مِنى عام 2015، حيث لقي المئات حتفهم في تدافع مأساوي قرب الجمرات، بينهم عدد كبير من الإيرانيين. فشل الطرفان في التوصل إلى اتفاق حول الترتيبات أدى إلى غياب الإيرانيين عن موسم الحج ذلك العام.

وفي صيف 2017، تزامن بدء موسم الحج مع اندلاع أزمة الخليج وقطع العلاقات بين السعودية وقطر. ورغم تأكيد الرياض أن حصة قطر محفوظة، فإن غياب البعثة الرسمية القطرية والقيود على السفر جعلت مشاركة الحجاج القطريين صعبة، مما أدى إلى انخفاض كبير في أعدادهم.

وفي عامي 2020 و2021، واجه الحج ظرفاً استثنائياً تمثل في جائحة كورونا. ولأول مرة منذ قرون، أُغلقت أبواب الحج أمام الحجاج من خارج المملكة، واقتصر على أعداد محدودة من سكانها، امتثالاً للتدابير الصحية ولمنع انتشار الوباء.

وفي حالات أخرى، تنعكس الأزمات السياسية الداخلية على ترتيبات الحج.

ففي سوريا، وبعد قطع العلاقات بين الرياض ودمشق عام 2012، أُوكل تنظيم حصة الحج إلى “الائتلاف الوطني السوري” المعارض، مما أثار جدلاً سياسياً ودينياً واسعاً حول الجهة المخولة بتمثيل السوريين.

وفي ليبيا، تسبب الانقسام بين حكومتين متنافستين في اضطرابات بتوحيد القوائم وتوزيع الحصص بين شرق البلاد وغربها.

كيف تُجرى القرعة؟ ومن يشرف عليها؟

بمجرد أن تُحدد المملكة حصة كل دولة، تنتقل مسؤولية التنفيذ إلى الحكومات والهيئات المحلية، حيث تختلف آليات التنظيم حسب الأنظمة والممارسات.

ويوضح الحلبي أن لكل دولة حرية كاملة في تنظيم قوائم حجاجها، بشرط الالتزام بالمعايير السعودية. ويقول: “كل دولة لديها نظام مختلف، ولديها الحرية في تحديد من هم الحجاج من المتقدمين، ولكن يجب على كل حاج أن يكون مستوفياً للشروط. لا يمكن أن يحصل أي شخص على تأشيرة الحج ما لم يكن مستوفياً كافة الاشتراطات المطلوبة، أهمها ارتباطه بهيئة تنظيمية كمكاتب الحج وارتباطه بسكن محدد في المدينة ومكة”.

ولتحديد من سيحصل على فرصة أداء الفريضة، تلجأ معظم الدول إلى نظام القرعة. وتختلف طريقة تطبيق هذا النظام، لكن الهدف يبقى موحداً: تحقيق شكل من العدالة في توزيع الفرص.

ويشرح الحلبي كيف يُطبق هذا النظام في بعض الدول، قائلاً: “نأخذ مثلاً حجاج تركيا، حيث يتم تسجيل الحاج الراغب بأداء الفريضة على موقعٍ تابع لرئاسة الشؤون الدينية. في حال ظهر اسمه في القرعة يمضي في إنجاز أوراقه، وفي حال لم يظهر، يبقى اسمه فيها للسنة المقبلة. ومصر أيضاً تعتمد نظام القرعة منذ زمن”.

وهكذا، لا يقتصر الحصول على موافقة لأداء الحج على الإمكانيات المالية أو اللوجستية فقط، بل يتطلب أيضاً انتظاراً ومعايير وإجراءات بيروقراطية قد تمتد لسنوات، لا سيما في الدول ذات الكثافة السكانية العالية.

في مصر، تشرف وزارة الداخلية على تنظيم قرعة الحج، وتُبث وقائعها مباشرة في كل محافظة، بحضور رسمي وشعبي لتأكيد الشفافية. يُشترط ألا يقل عمر المتقدم عن 25 عاماً، وألا يكون قد أدى الفريضة سابقاً، مع تقديم تقارير طبية تثبت لياقته البدنية.

في المغرب، تتولى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة العملية، حيث يُفتح التسجيل الإلكتروني سنوياً، مع إعطاء الأولوية لمن لم يؤدِ الحج خلال العشر سنوات الأخيرة.

في العراق، تشرف الهيئة العليا للحج والعمرة على قرعة إلكترونية تشمل جميع المحافظات. ويُشترط ألا يكون المتقدم قد أدى الفريضة سابقاً، مع إعطاء الأولوية لكبار السن، وتُعلن النتائج عبر الموقع الرسمي وسط متابعة إعلامية واسعة.

في لبنان، تتولى هيئة شؤون الحج والعمرة تنظيم القرعة بناءً على معيارين رئيسيين: العمر وعدد المواسم السابقة التي لم يحج فيها المتقدم. تُعطى الأولوية لمن لم يؤدِ الفريضة منذ عشرين موسماً هجرياً (2004–2024)، وفي حال عدم اكتمال العدد، تُفتح الدفعة تدريجياً لمن لم يحج منذ تسعة عشر موسماً، فثمانية عشر، وهكذا.

في إندونيسيا، التي تملك أكبر حصة عالمياً، قد يصل الانتظار إلى 15 عاماً أو أكثر بسبب الإقبال الهائل. وفي إقليم جنوب سولاويزي وحده، قد تمتد قائمة الانتظار حتى 43 عاماً، وفقاً لوسائل إعلام حكومية إندونيسية محلية. ورغم نظام التسجيل المبكر والرقابة الإلكترونية، تبقى القوائم طويلة، مما يجعل أداء الحج حلماً مؤجلاً لملايين المسلمين.

أما عن دور مكاتب الحج والسياحة الدينية، فيوضح الحلبي: “لا علاقة للمكاتب بتحديد الحصص أو في عملية القرعة. عادةً الهيئات الحكومية للحج في الدول هي من تجري القرعة، ومن يَظهر اسمه فيها يتعامل مع مكتب للحج لتنظيم الأمور اللوجستية من حجوزات وأوراق رسمية وغيرها. كما يكون دورها توعية الحجاج حول كيفية القيام بمناسك الحج وتدريبهم وتعريف كل مشعر من الشعائر المقدسة لهم”.


توسعات تُثير نقاشاً جديداً

وفي خضم هذه التحديات، تواصل المملكة تطوير البنية التحتية للحرم والمشاعر المقدسة.

منذ عام 2011، ومع بدء التوسعة السعودية الثالثة في عهد الملك عبد الله، واستكمالها في عهد الملك سلمان، ارتفعت القدرة الاستيعابية للحرم إلى أكثر من 1.8 مليون مصل.

يؤكد الحلبي: “عدد الحجاج والمعتمرين يصل إلى 15 مليوناً عام 2025، وفي عام 2030 ضمن رؤية السعودية يصل إلى 30 مليوناً. أما بالنسبة للحجاج، فالمملكة تسعى لأن يصل العدد السنوي إلى خمسة ملايين حاجٍ عام 2030. جاء رفع العدد السنوي بعد عمليات التوسعة التي لم تنتهِ بعد، وهناك دراسات تجريها الجهات المعنية اليوم للمزيد من التوسعات للشعائر المقدسة”.

المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *